في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

تلخيص كتاب سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية لطه عبد الرحمن

ادريس رزقي

 

في نص أصيل اختار له الأستاذ و المفكر المغربي طه عبد الرحمان عنوان " سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية نشر في المركز الثقافي العربي وجه طه عبد الرحمان سهما من سهام الفلسفة النقدية. ليس بالمعنى الكنطي بل النقد كما مارسه الفلاسفة منذ نشأة الفلسفة، للحداثة الغربية التي مجدت العقل و جعلته سلطانا، لا قوة فوق قوته بدءا من رونيه ديكارت كمؤسس فعلي للحداثة الغربية و انتهاء بهيغل على حساب البعد الأخلاقي في الإنسان. لقد عمدت هذه الفلسفة الغربية إلى السيطرة على الطبيعة و تطويعها وفق منطق العقل للإجابة عن كل أسئلة. و ما ذلك إلا لكون الطبيعة كتاب مفتوح لغته الرياضيات.

في البدء لا بد من الاشارة إلى أن الأستاذ طه عبد الرحمان قد دافع عن العقل و العقلانية، لكنه أيضا دافع عن البعد الأخلاقي في الإنسان، لذلك عمد منذ بداية هذا الكتاب إلى التمييز بين العقلانية المجردة من الأخلاقية و العقلانية المسددة بالأخلاقية، فالأولى قد يستطيع من خلالها الفرد قلب الحقيقة جاعلا من النقص كمالا و من الضعف قوة، و بذلك ينسب إلى العقل ما ينبغي أن ينسب إلى نقضيه أي الجهل. بينما في الثانية لا يمكن فعل ذلك لأنها عقلانية عملية و ليست عقلانية نظرية كالأولى. و من خلال هذا التمييز يحمل طه عبد الرحمان يقربان الصواب هو اعتبار أن الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنسانا. لكن يتضح من خلال هذا الأمر نزوع و ميل طبيعي للمؤلف إلى البعد الديني بالأساس، و كأنه يحس بحنين انطولوجي نحو ميله الطبيعي. إذ بالأخلاق و حدها لا يمكن ممارسة فعل التفكير بطريقة موغلة في التجريد الذي ينسب إلى الفلسفة و مارسه العقل لا الأخلاق.

إن نقد الحداثة الغربية باسم الأخلاق الدينية أو بالأحرى مكارم الأخلاق دفع بالمؤلف إلى التساؤل عن الصلة بين مكارم الأخلاق و الدين، و تتخذ هذه الصلة ثلاث أشكال هاكم إياها بنفس الترتيب الذي وردت فيه في هذا الكتاب: تبعية الأخلاق للدين و تبعية الدين للأخلاق و استقلال الأخلاق عن الدين.

بالنسبة للشكل الأول " تبعية الأخلاق للدين " قد و جد فعلا في الفلسفة الغربية و لعل أبرز القائلين به القديس أوغسطين و القديس توما الاكويني من خلال فكرتي الإيمان بالإله و إرادة الإله. أما بالنسبة للشكل الثاني أي تبعية الدين للأخلاق فيستند أصحاب هذه الفكرة على مبدأ الإرادة الخيرة كما نص على ذلك الألماني ايمانويل كنط في كتابه " نقد العقل العملي " و تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق". و أما الشكل الثالث فهو الذي نجد فيه استقلال الأخلاق عن الدين بمقتضى مبدأ " لاوجوب من الوجود " الذي اشتهر بها ديفيدهيوم و قد سميت هذه الفكرة بقانون هيوم و قد أبدى المؤلف عدة اعتراضات على كل شكل من هذه الأشكال الثلاث. لذلك سنذكر فقط الاعتراض الذي قدمه الأستاذ طه عبد الرحمان على الشكل الثالث، إذ يعتبر أن هيوم قد اعتبر الدين بمنزلة نظرية في المغيبات و كذلك إنكار حضور الدين في الأخلاق و هو الأمر الذي رفضه طه عبد الرحمان لان الأصل في الدين هو حفظ الشعائر الظاهرة. بينما الأصل في الأخلاق هو حفظ الأفعال الكمالية و مادام حفظ الشعائر الظاهرة لا يتنافى مع حفظ الأفعال الكاملة فلا يجب أن تستقل الأخلاق عن الدين .

في الفصل الثاني من هذا الكتاب يبرز طه عبد الرحمان حدود العقلانية المجردة، و كيف السبيل الممكن للتصدي لها أخلاقيا، انطلاقا من بيان معايير تعريف العقلانية التي يحددها في ثلاث معايير هي كالتالي: الفاعلية، التقويم و التكامل مستندا في تعريفه للعقل إلى كل من أرسطو الذي يعتبر العقل جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان و يستعد به لقبول المعرفة و مبديا تناقض هذا القول مع المعايير السالفة و قد نظر أيضا إلى حدود تعريف ديكارت للعقل، و هكذا فللخروج من العقلانية المجردة لا بد من التوسل بالقيم العملية. لان العمل يقوم بتلقيح و إخصاب الممارسة العقلية لتتولد قوة إدراكية جديدة. لذلك فالمتخلق بأخلاق الدين هو الذي بإمكانه أن يصل إلى درجة العقلانية المسددة، ليرتقي فيما بعد إلى العقلانية المؤيدة.

 لكن لا يتم هذا الارتقاء إلا بتجنب الآفات التي تدخل في عمله. سواء أكان هذا العمل قولا أو فعلا و القول و الفعل هما المظهرين اللذين تتجلى بهما سر الحياة في الوجود الإنساني فبقدرما يعرف الإنسان بكونه حيوان ناطق بقدرما يعرف بكونه كائن حي عامل إلا أن هذين المظهرين قد اختلف لحد التباين و الانقطاع، فكانت الغلبة في الحضارة الغربية للقول لا للفعل و علامة ذلك سيادة طوفان الأقوال " ثورة المعلومات " " سيادة القلم " " سلطان العقل" ... الخ و بذلك عرفت الحضارة الغربية باسم حضارة قول بحق. و قد أبدى الأستاذ طه عبد الرحمان عدة اعتراضات لحضارة القول هذه منها إن سيادة القول على الفعل تظهر عدة أضرار إلى الكيان الخلقي للإنسان. و من هذه الأضرار نجد: آفة التضييق تضييق رقعة الأخلاق بحجة أن لا أخلاق في القول النظري، و كذلك التنقيص و كذلك آفة التجميد... الخ

إن هذه المضار الثلاث التي أصابت الإنسان في كيانه الخلقي لا يمكن إصلاحها إلا عن طريق تخلق جدري و كلي هو اقرب إلى التجربة الدينية العميقة منه إلى غيرها. و من شأن التخلق المؤيد أن يخرج الإنسان من حضارة القول إلى حضارة الفعل و خصائص من التخلق هي مبدأ الإيجاب أي أن الفعل الخلقي هو واجب يعاقب على تركه بالبعد الروحي كما يعاقب تارك الفعل القانوني بالقسر البدني. و مبدأ التكتير و مبدأ الترتيب و أخيرا مبدأ الاستماع.

هكذا إذن و من خلال قوة التخلق المؤيد نستطيع التغلب على أضرار حضارة القول و مظالمها للإنسان، فالدعوة إلى الأخلاق واضحة في فكر و في كتاب طه عبد الرحمان، و خاصة التخلق بأخلاق الدين الإسلامي الذي يزاوج بين العقل و النقل و بين القول و الفعل الذي لم يلتزم به أصحاب النمط المعرفي الحديث الذي يقوم على أصلين هما : رفض الأخلاق في العلم بدعوة أن لا أخلاق في العلم، و أن لا غيب في العقل كمبدأ ثان. و قد واكب هذا النمط المعرفي الحديث عدة أزمات منها: أزمة الصدق التي نتج عنها مبدأ الموضوعية و مبدأ التساهل و أزمة القصد الذي نتج عن المبدأ الثاني في هذا النمط. و للخروج من هذه الأزمات يقترح طه عبد الرحمان نهج بعض السبل و الطرق كطريق التنقيح و التخريج، تنقيح المناهج العقلية حتى تصير موافقة لمقتضيات التسليم بالغيب و تخريج النتائج العلمية حتى تصير آخذة بأسباب السلوك الخلقي و كذلك طريق العقل الكامل و العلم النافع.

إن اخذ الحضارة الغربية بهذين المبدأين فقط فعلا يمكنها من أن تظهر حضارة متقدمة ناجعة، لكنها في الأصل حضارة متأزمة. لأنها تسعى فقط إلى إخضاع الطبيعة في غنى عن أي بعد أخلاقي، تأخذ بالبعد العقلي و ترفض المسلمات الأخلاقية. و النمط المعرفي الحديث غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية. لأنه لم يتم بعد حصول الاتحاد بين النظر و العمل، حتى ينفتح  له باب تحصيل القدرة على التجديد.

و في معرض نقده للحداثة الغربية التي مجدت العقل و كرست سيطرتها على النظام العلمي – التقني للعالم. الذي و ضع أصوله في العصر الحديث كل من غليلو و بيكون و رتب مسائله ديكارت و نيوتن قام طه عبد الرحمان بعرض السيادات الثلاث لهذا النظام ليعمل فيما بعد على نقدها. و لعل هذه السيادات التي عرفها النظام العلمي – التقني هي سيادة التنبؤ و سلطان السطوة انطلاقا من محاولة الفكر الغربي التحكم في الطبيعة عبر إمكانية التنبؤ بما يحدث في المستقبل ليعمل هؤلاء على ترتيب الإمكانات النظرية و تبين التمكنات العملية. و كذلك سيادة التحكم و سلطان البأس من خلال تنسيق الإمكانات النظرية و تطبيق التمكنات العملية و أخيرا سيادة التصرف و سلطان البطش أي التنسيق الداخلي لهذه الأفاق العلمية. و قد أخد طه عبد الرحمان على هذا النظام و على سيادة هذه المبادئ انفصالها عن الأخلاق الدينية. و الأخلاق من منظور طه عبد الرحمان هي الدعوة إلى كل الأفعال التعبدية التي دعا الدين الإنسان إليها من اجل تحصيل سعادته الأخروية. و قد انفصل النظام العلمي التقني عن الأخلاق عند طه عبد الرحمان في ثلاث مسائل:

أ عقلانية النظم و استبعاد الأخلاق من خلال التركيز فقط على التجربة في البرهنة على العلوم و كذلك من خلال التركيز على دعوة أن لا أخلاق في العلم و لا في التقنية.

ب – عقلانية التنظيم و الاستحواذ على الأخلاق من خلال التركيز على التقويم العقلي و البدني فقط مع إقصاء التقويم الأخلاقي لان هذا التقويم هو تعدي للحدود عند البعض.

ح – عقلانية الانتظام و الاصطناع الأخلاقي.

ان هذه المراتب الثلاث لعقلانية النظام العلمي- التقني و هي النظم، التنظيم و الانتظام تدعو إلى مبادئ سلوكية تضر بالأخلاق الدينية ضررا يتزايد بحسب مراتب هذه العقلانية. لذلك عمد طه عبد الرحمان إلى تقويم هذه النظريات. النظريات الأخلاقية المصححة للنظام العلمي – التقني من خلال بيان أن هذه السيادات هي سيادات وهمية. و قد حدد هذه النظريات في ثلاث . الأولى تنبه على قصور التنبؤ و هي نظرية المسؤولية و الثانية تبين قصور التحكم و هي نظرية التواصل بينما تنبه الثالثة على قصور التصرف و هي نظرية الضعف.

بعد عرض نظرية المسؤولية لهانس يوناس التي تستند على مبدأ أخلاقي أساسي هو: لتأت فعلك على الوجه الذي يجعل أثاره تصون الحياة الإنسانية الحقة على وجه الأرض و ذلك من خلال عقد ميثاق بيننا و بين الطبيعة يعترض طه عبد الرحمان على هذه النظرية كونها لمحت إلى مبدأين من مبادئ الأخلاق الإلهية دون أن تصرح بهما و هما : مبدأ الاستخلاف استخلاف الله للإنسان في الأرض و جعله خليفة له في عمارة الأرض و مبدأ تعظيم الخلق.

أما فيما يخص نظرية التواصل لكل من كارل اوتو آبل و يورغن هابرماس و قد حاولت هذه النظرية تأسيس أخلاقيات كبرى للتواصل تكون مشتركة بين الإنسانية جمعاء. هذا التواصل الذي يتخذ عند هابرماس صورة المناظرة. و قد وقفت هذه النظرية على اجتناب ما وقعت فيه عقلانية التنظيم من الاستيلاء على الأخلاق الدينية، لكن واقع التواصل قد اختلف عما كان عليه بالأمس عندما كانت تقام المجالس للتواصل فيما بين الإنسان.فقد أصبح التواصل متحكما فيه من طرف الإعلام ورغبات الصناعة و التجارة و أوهام الدعاية و السيادة على طلب الحقيقة... الخ. و أما نظرية الضعف التي قال بها كل من جاك ايلول في مقالته الشهيرة " بحث من اجل أخلاقيات المجتمع التقني " . و كذلك دومنيك جانيكو في كتابه " قوة المعقول " فقد نجحت في تفادي ما انساقت إليه عقلانية الانتظام من اصطناع أخلاق غير الأخلاق الدينية. لكن لم تستطع هذه النظرية تخطي عتبة مبدأ انقلاب العقل إلى ضده .

و أما عن الاعتراضات العامة التي يقدمها طه عبد الرحمان على النظريات المصححة النظام العلمي- التقني فقد أخد عنها أنها أخدت بالتعقل و عملت بالتنكر كونها لم تخرج عن النظريات الأخلاقية القديمة إلا خروجا ظاهريا و لم تفترق عن الأخلاقيات الحديثة إلا افتراقا هينا. فهي أي النظريات السالفة الذكر أخلاقيات تنكرية بينما  اعتبر طه عبد الرحمان النظريات الحديثة أخلاقيات إنكارية و الاعتراض الآخر الذي يعترض به طه عبد الرحمان عن هذه النظريات إنها أخلت بشرط التناسب و الحاجة إلى التخلق و التعرف. لكونها أخدت بالتعقل ووقعت في التنكر و بذلك أخلت بشرط التناسب في الشكل . فلذلك كان لا بد من طلب أخلاقيات أخرى غير هذه الأخلاقيات التي تدعي مبدأ السيادة. و هذه الأخلاقيات هي ما يدعونا إليه العمل التعبدي إنها أخلاقيات تدعو إلى العمل بالتخلق الحكيم و التعرف البصير و هي أخلاقيات تنص في قاعدة النظم التعرفية عن انه متى طرق باب الغيب فاعلم انه ما كل شئ يعقل، و أما في قاعدة النظم التخلقية فتنص هذه الأخيرة على انه يجب أن لا ينفك علمك عن العلم بسيد الكون. و بهذه الأخلاق التي نصت عليه نظرية التعبد و آداب العلم التقنية نستطيع دفع آفتي التنبؤ و التحكم، و من خلال هذه النظرية أيضا ندرك أيضا ندرك انه متى اقبل الإنسان على العمل، فما كل شئ يستطيع أن يفعله، و متى طلب الإحاطة في المعقول و الشمول في المفعول، فما كل شئ يقبل.

إن النظام العلمي- التقني للعالم الذي قام على اتخاذ المنهج التجريبي و الرياضي حصل على إجرائيات هائلة و على إمكانات نظرية متكاثرة. غير أن رغبتها في السيادة و التنبؤ أضرت بالأخلاق ذات الأصل الديني. لذلك استبدل مفهوم التخلق مكان مفهوم التعقل، و مفهوم التعرف مكان مفهوم التنكر. إنها بكلمة واحدة نظرية التعبد لطه عبد الرحمان التي صححت النظريات السالفة و قومت اعوجاجها أو قل بعبارة جامعة إن نظرية " التعبد " تخرج الإنسان من طلب حظوظ السيادة على الكون إلى أداء حقوق العبودية لسيد الكون: أليس هو الذي سخر له هذا الكون تسخيرا !!

هكذا فان الحضارة الغربية التي هي حضارة اللوغوس ذات وجهين : عقلي و قولي و ذات شقين معرفي و تقني هذين الوجهين  ودينك الشقين خدما الإنسان ولبا حاجياته. لكنهما سببا ضررا أخلاقيا بقدر  يهدد إنسانية الإنسان لان الوجه العقلي هذا قد قطع الصلة مع مراتب الأخلاق و بذلك فقد الإنسان كرامته و قيمته ككائن أخلاقي أو قل فقد هويته في أفق عقلي فكيف تم التصدي لهذه الحضارة التي حاولت طمس الهوية الإنسانية؟

 بناء على هذه الاعتبارات الثلاث: الضرر الخلقي لحضارة اللوغوس، التحول الأخلاقي المنتظر و الفراغ الأخلاقي الإسلامي قام العديد من الباحثين و صاحب هذا الكتاب الذي نحن بصدد تكثيف معانيه واحد منهم بإبراز معالم أساسية لنظرية أخلاقية إسلامية تسهم قدر الإمكان في ملئ هذا الفراغ. و قد انطلقت هذه النظرية الأخلاقية الإسلامية عند طه عبد الرحمان من مسلمتين هما : مسلمة الصفة الأخلاقية للإنسان و مسلمة الصفة الدينية للأخلاق. فبقدر ما تنص الأولى  على استحالة وجود إنسان بغير أخلاق بقدرما تنص الثانية على استحالة وجود أخلاق بغير دين. إنها مسلمتين  متكاملتين الواحدة تكمل الأخرى، و على هذا الأساس فلا وجود لإنسان بغير دين، و هنا جاز لنا تعريف الإنسان بكونه الكائن الحي المتدين ". و في نفس الإطار سعى طه عبدالرحمان إلى إبطال جميع المسلمات النظرية الأخلاقية غير الإسلامية و التي تنص على إقامة الفصل بين العقل و الشرع من جهة و الفصل بين العقل و القلب والعقل و الحس من جهة ثانية. لذلك كان لابد من بناء أركان للنظرية الأخلاقية الإسلامية  هذه الأركان التي تستطيع إزالة الفرق الذي وضعته النظرية الأخلاقية بين العقل و الشرع و العقل و القلب... الخ. و بذلك يدعو طه عبد الرحمان إلى العودة إلى أخلاق الإسلام لفك طوق الحصار الذي فرضته الحضارة الغربية. و تتمثل ضروب هذه المحاصرة في محاصرة خارجية و أخرى داخلية. و المحاصرة أولا هي تضييق يحد من قدرة الشئ على بلوغ مقصده الأصلي الذي يورثه قيمته معتبرة في الوجود. ذلك أن المحاصرة الخارجية هي محاصرة القوة الخارجية المهيمنة عبر مؤسسات هذه الأخيرة التي تعتبر دعوة العودة إلى الإسلام عملا إرهابيا و تعتبر الإسلام خطرا حضاريا و تتجسد واقعيا في ما يتعرض له الداعية المسلم في البلاد الأجنبية من إذلال. و أما المحاصرة الداخلية فهي إجمالا للمحاصرة التي تمارسها على الرجال الذين يدعون إلى العودة إلى الإسلام من مختلف التكتلات التي تناهض علنا و سرا كل عمل يسعى إلى الرجوع إلى الأصل الديني و من ذلك محاصرة الداعية  لأخيه. لذلك و جب رفع المحاصرة عن الدعوة إلى عودة الإسلام بتغيير جميع المناكر إما باليد أو باللسان أو بالقلب. و كل شكل من أشكال التغيير هذه تستطيع رفع حصار معين. فالتغيير باليد مثلا تستطيع  رفع المحاصرة الذاتية، أي رفع حصار الداعية لنفسه.

هكذا تكون الدعوة إلى عودة الإسلام  عمل تنويري تحريري عام محاصر من الداخل و من الذات كما هو محاصر من الخارج. و لا طريق إلى رفع هذه المحاصرة المتمثلة إلا بالتوسل بالأسباب التنويرية و التحريرية هذه الدعوة نفسها. و بنفس الوسائل يمكن تجديد الفكر الديني، تجديدا عمليا و آخر نظريا فالتجديد العملي يكون إما باستعجال المسلم التقدم الحضاري و إما محاكاة الحداثة الغربية و أما التجديد النظري فيتمثل إما بالتحقق بالعمل الشرعي و إما باستعمال العلم و إما بالتوسل في النظر بمفاهيم شرعية.

ختاما، لقد جعل طه عبد الرحمان من الجمع بين الاخلاق و الدين أصلا من الأصول الذي بني عليه هذا الكتاب، و هو إجمالا مساهمة جديرة بالاهتمام مساهمة نقدية للحداثة الغربية. و لا يسعنا هنا إلا أن نقول عذرا للأستاذ طه عبد الرحمان إن نحن كثفنا معاني كتابه، عذرا له إن نحن أخطئنا في هذا التكتيف، و عذرا لاستأذنا مصطفى بلحمر إن نحن اخترنا هذا الكتاب الذي يبقى في الأول و الأخير بعيد كل البعد عن مادة الديداكتيك.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال