في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

مسارات التفكير لجاكلين روس

كريم بن الليمون

 

تمهيد:

يمكن اعتبار كتاب"طرق التفكير"مادة فلسفية خصبة ومعينا ديداكتيكيا هاما لإضاءة مسار الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي التأهيلي. وهذا ما يثبته شكله التبسيطي،العميق في نفس الوقت،ومضمونه الغني بمحاور استهدفت في مجملها خلق سعادة الاكتشاف الفلسفي  وضمان دعامة صلبة وتلقائية لاجتياز المتمدرس للامتحان في ظروف جيدة.وذلك وفق إستراتيجية ومنهجية التركيز على "موجز النصوص" بشكل ملفت وبيداغوجي،سعيا إلى ترسيخ قدرة التأمل الفلسفي عن طريق الاستفادة من مراجع موغلة في القدم،لكن في نفس الآن،بالاعتماد على مراجع معاصرة تعبر عن اهتمامات فلسفية غير منفصلة عن القضايا الراهنة.

-الجانب الشكلي والتنظيمي للكتاب-

يحتوي الكتاب على 552 صفحة.تستهله المؤلفة بالتقديم،ثم باللائحة الموضوعاتية(liste thématique)،وبعد ذلك،تستعرض لائحة الفلاسفة المعتمدين في الكتاب بالترتيب الحرفي.علاوة على الملف الأيقونيdossier iconographique بالألوان والإشارات والأسهم والخطاطات لمجموعة من المفاهيم والإشكاليات والأطروحات الموجزة.غير أن النصيب الأكبر كان للنصوص الفلسفية الموجزة(حوالي 475 نص).

ومن الواضح أن المؤلفة خصصت حيزا كبيرا للفكر الفلسفي المعاصر،بإدراج نصوص علمية وتأريخية لهذا الفكر،على اعتبار أن هذا الفكر هو الأقرب لمعيش المتعلمين،بينما جاء الحيز النصي ضئيلا للفلسفة القديمة والوسيطية مقارنة مع الفلسفة المعاصرة.

وقد تم مراعاة الترتيب التاريخي للفلاسفة في معرض التطرق لأطروحاتهم،مع الإشارة إلى مرجعياتهم الفكرية كلما توقفت المؤلفة عند واحد منهم،وذلك بغية استيعاب العلاقات القائمة بين أفكار الفلاسفة في ما بينهم عبر التاريخ البشري.

ففي ما يتعلق بطريقة دراسة فيلسوف معين،حاولت المؤلفة اقتفاء نموذجا أساسيا يتكون من العناصر التالية:

-سيرة ذاتية بأهم الأحداث وأهم المؤلفات.

-الجذور الفكرية للفيلسوف،بحيث يتم ربط أفكاره بفلاسفة عايشوه أو سبقوه.

-المفاهيم المحورية التي تؤطر المرجعية الفلسفية التي ينتمي إليها الفيلسوف.

     أما بخصوص طبيعة النصوص المدرجة،عملت جاكلين روس على إظهار بنيتها بالكشف عن الإشكالية الأساسية للنص في جانبه الأعلى يمينا،والإعلان عن أطروحته أسفله مباشرة.أما الأفكار الأساسية للنص،فنجدها واضحة بجانب بداية فقراته.

وفي بداية الجملة الأولى من كل نص، تستوقفنا إشارة يوجد توأمها أسفل الأطروحة، وهي إشارة تروم وضع القارئ في السياق الذي جاء فيه هذا النص والموضوع الذي يحاول إثارته. كما لا يجب إغفال عنوان النص الذي غالبا ما يختصر أطروحته.بالإضافة إلى إيراد المفاهيم الأساسية والصعبة بشروحاتها.وأخيرا،فكل النصوص لا تنفصل عن المراجع الأصلية التي أخذت منها.

         ومما أضفى على الكتاب بصمة جمالية أصلية،تلك الصور النادرة للفلاسفة ولبعض الصور الأخرى المرتبطة بالموضوعات المدروسة،كصورة آدم وحواء عندما أراد آدم أن يقطف تلك التفاحة المنهاة عنها،على سبيل المثال لا الحصر،وذلك في سياق التمهيد بمرجعية إنجيلية مسيحية قبل ولوج الفلسفة القديمة والوسيطية.

-مضمون المحاور الكبرى-

أولا: الفلسفة القديمة والوسيطية

 

لقد اكتفت المؤلفة بالإشارة إلى شذرات من الفكر اليوناني دون تحليل وتفكيك كل الشخصيات الفلسفية الفاعلة في هذا الفكر.فتناولت باقتضاب شديد فلسفة هرقليطس من خلال مفاهيم: اللوغوس، الصراع وتجانس الأضداد، وذلك في إطار موضوعات الزمن والنزاع والوجود، من خلال الكشف عن السياق الإشكالي العام، والذي يمكن طرح عناصره على الشكل الآتي: هل الواقع متغير أم ثابت؟ما الزمن؟ما هي العلاقة بين الأضداد؟ما هو التوازن الذي يحكم العالم؟ما هو أصل كل الأشياء؟

         وفي معرض التفاتتها إلى فلسفة بارمنيدس، أوردت المؤلفة نصا واحدا من كتابه"عن الطبيعة" حيث ركز فيه هذا الفيلسوف اليوناني على الطريق الوحيد الممكن، وهو طريق الوجود الثابت كحقيقة أصلية.

بعد ذلك، انتقلت المؤلفة إلى إشكالية الخطاب كما حددها السفسطائيون لاسيما مع جورجياس، الذي أراد أن يجعل من الخطاب سحرا وسلطة قادرة على فعل كل شيء.

أما فلسفة أفلاطون، توقفت عندها المؤلفة بعمق، من خلال ستة محاور أساسية:

1-سقراط: تطرقت فيه إلى مهمة سقراط...

2-نظرية المثل والدياليكتيك: تناولت فيه ماهية فعل التفكير من خلال تمييز أفلاطون بين عالمين:عالم المحسوسات وعالم المعقولات...

3-الجميل وديالكتيك الحب: توقفت فيه عند إشكالية البحث عن الكلية الفردية المفقودة.وكذا،إشكالية الحب كواقع مفارق...

4-الأخلاقيات: الذي تضمن موضوعات متنوعة كماهية طبيعة القوانين،مصدر الفضيلة،الواجبات ولا محدودية الرغبات:كيفية ممارسة العدالة...

5-الجماليات ونظرية الفن: أشارت فيه المؤلفة إلى موضوع علاقة الفن بالوهم، الشعر وغياب العقل...

6- السياسة: ركزت فيه المؤلفة على اهتمام أفلاطون بكيفية إحقاق العدالة في المدينة-الدولة وكيفية بناء المدينة الفاضلة...

         أما بنسبة لفلسفة أرسطو، فقد أفردت لها المؤلفة نفس عدد المحاور التي أوردناها لأفلاطون،لكن هذه المرة بموضوعات جديدة كالمنطق والفيزياء والبيولوجيا والميتافيزيقا التي استطاعت أن تهيمن على فكر أرسطو في إرادته لتجاوز نظرية المثل ونظرية الجمال وذلك بالموازاة مع تجديد التصور الأخلاقي الأفلاطوني والسياسي في الجانب العملي، فخصصت المؤلفة محوري الأخلاق والسياسة لإبراز الموقف الأرسطي منهما.

         وفي سياق آخر، تناولت المؤلفة لحظة الشك في اليقين وتعليق الحكم مع الشكاك وبيرون، حيث أصبح "الخطأ" أو "الصحيح" مجرد حكمين متسرعين غير قابلين للاستمرار والثبات.

كما استعرضت المؤلفة نصوص مختارة تعبر عن الفلسفة الذرية، لاسيما في جانبها الأبيقوري.

         بعد هذا الجرد السريع لأهم الموضوعات التي قدمتها جاكلين روس في نصوص حجاجية تعبر عن أطروحات أصحابها اليونانيين، انتقلت إلى دراسة الفلسفة الوسيطية بأهم إشكالياتها الجديدة،منها: أي موقع للإنسان في هذا العالم؟ما معيار التمييز بين الأشياء الخاصة بقدرة الإنسان والأشياء الخارجة عن قدرته؟هل أجزاء العالم موحدة أم منفصلة؟

         ولقد ختمت المؤلفة سلسلة فلاسفة القرون الوسطى بالقديس أوغسطين الذي اعتمد على الإيمان والعقل للتمييز بين زمن الإنسان والزمن الخالد والماورائي، وبتوماس الأكويني الذي أكد على حرية الإنسان في هذا العالم بمنطلقات إيمانية واعتقادية.

ثانيا: من النهضة إلى فلاسفة التاريخ

           

انطلاقا من نصوص مختارة بعناية، يتبين أن لحظة جديدة في تاريخ الفكر البشري(خصوصا منه الفكر الأوربي) قد لاحت في الأفق، على اعتبار أن العالم سوف يعرف تحولات تدريجية واضحة في عدة مجالات، لاسيما ما يتعلق بالجانب الفكري.

         وأهم الفلاسفة الذين ساهموا في هذه الدينامية الجديدة،أوردتهم المؤلفة بالترتيب كالآتي : ميكيافيلي ،إتيان دولبوويتي، فرانسيس بيكون، هوبز، ديكارت ،باسكال، اسبينوزا،جون لوك، مالبرانش، ليبنز، مونتيسكيو، هيوم، روسو، كانط، لابلاس، هيجل، شوبنهاو، كونت، كورنو، ستيرن، برودون، برنار، كركجارد، إنجلز.

         من الصعوبة تلخيص أفكار الفلاسفة واتجاهاتهم الفكرية كما جاءت في الكتاب، لكن يمكن القول بصفة عامة، أن المؤلفة استعرضت عبر هؤلاء الفلاسفة اشكالية الذات الإنسانية في علاقتها بالواقع التجريبي ووعيها بذاتها، ومن جهة أخرى، استحضار البعد الاقتصادي والوعي الاجتماعي والسلطة السياسية.إضافة إلى الوقوف مليا عند مسألة المنهج في الفلسفة العقلانية والتجريبة والعلوم الإنسانية.

إن المثير للانتباه حقا في هذا الكتاب، هو أن الفلاسفة المعروفين كان لهم النصيب الأكبر في إبراز أطروحاتهم الفلسفية عبر نصوص متنوعة،عكس الفلاسفة غير المتداولين كثيرا(دولبويتي،كورنو..)، والذين لم يشملهم نفس الإهتمام والتوسع في أفكارهم.ويمكن تفسير ذلك بتلك البصمة الواضحة التي تركها الفلاسفة الأكثر حضورا في تاريخ الفكر الإنساني، أو بتأويلات أخرى تحتفظ بها جاكلين روس في مرجعيتها الفكرية والبيداغوجية.

ثالثا: الفكر المعاصر: من نيتشه إلى الفلاسفة المعاصرين

           

اعتبرت جاكلين روس أن بداية الفكر المعاصر تحققت مع فريدريك نيتشه، وذلك اعتبارا لنقده الجذري وغير المسبوق للمعرفة.وكذلك لنقده القطعي لجميع القيم السائدة في عصره على أساس فيلولوجي جينيالوجي، كما أنه يجب إعادة تصور جديد كل الجدة للحياة قصد الانسجام والتلاحم مع الغريزة الطبيعية لحياة الإنسان كحقيقة أولى نحو الانطلاق إلى الإنسان الأعلى والانفلات من عبودية الرضوخ.

         ومباشرة بعد هذه الثورة القيمية في مجال الفلسفة، انتقلت جاكلين روس إلى ثورة التحليل النفسي مع فرويد. فإذا كان الوعي هو محدد المعالم الكبرى للنهضة الأوربية فإن فرويد سوف يشكل محطة حاسمة في القطع مع التصورات التقليدية للوعي. لقد اعتبر فرويد أن نظرية اللاوعي هي البديل الحقيقي لفهم كيفية اشتغال الجهاز النفسي، وذلك انطلاقا من تحليلاته العيادية وجهاز مفاهيمي سيكولوجي تحليلي عميق يعبر عن الشخصية الآلية والدينامية للإنسان.

         ولقد انفتحت المؤلفة في كتابها على مجال اللسانيات، من خلال إدراج رائدها وواضع أسسها البنيوية المعاصرة"ديسوسير" من خلال دراسة نص له مقتطف من كتابه"بانوراما العلوم الإنسانية" حيث أبرز فيه الطابع الشرطي وغير الشرطي للعلامة الإنسانية.

         وبعد ذلك، قامت المؤلفة بطرح مسألة الوقائع الاجتماعية في علاقتها بالمنهج العلمي مع دوركايم، ثم أشارت إلى لحظة أزمة العلوم عبر نصوص هوسرل الفينومينولوجية، ونصوص بروكسون الحدسية.

وفي خضم تشعب الموضوعات بين مبادئ تشكل السلطة (فيبر) وسيكولوجية الوعي الأخلاقي(ألان) من جهة، وبين فلسفة العلوم (باشلار)،ومجاوزة ميتافيزيقا العلوم (هايدغر) من جهة ثانية، تعددت القراءات الفلسفية المعاصرة: فتارة نواجه فلسفة ذات حمولة علمية وسيكولوجية وتكوينية(بياجي)،وتارة أخرى نكتشف إعادة الإعتبار لحرية الإنسان المطلقة مع الوجودية(سارتر). وبين هذا وذلك،يعاد طرح سؤال الوجود الإنساني المتفرع عن التحديدات العلمية الصارمة(ميرلوبونتي)، لكن سرعان ما تتدخل نصوص الأثنوغرافيا والأثنولوجيا والأنتروبولوجيا  لتكرس إرادة تكوين معرفة علمية وشمولية حول الإنسان ، لاسيما ما عبرت عنه كتابات ليفي ستراوس في هذا المجال.

         هذه التفرعات الفلسفية والتخصصات الجديدة في العلوم الإنسانية، لم ينقطع صداها تماما عند الفلاسفة اللاحقين أمثال: جاكوب ، إدغارموان ، دولوز ، شومسكي ، بورديو ، شونجو.. فهذه القائمة من الفلاسفة تحاورت بشكل نقدي مع الفلسفات السابقة عليها رغم الإستفادة الواضحة من روافدها، وهذا ما تعمل على إبرازه جاكلين روس أثناء وضعها لملخص الجذور أو المرجعية الفكرية لكل فيلسوف.

      هكذا، يتضح أن هذا الكتاب،كان بالفعل، مادة دراسية جدية ركزت على نصوص فلسفية منتقاة بعناية للإحاطة بالمحطات الأساسية لتاريخ الفلسفة الأوربية، وذلك بشكل سياقي وبيداغوجي وديداكتيكي صارم ومفيد كوسيلة معينة لأستاذ الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي.كما أن هذا الكتاب من شأنه مساعدة التلاميذ على تجاوز صعوبة تحقيب تاريخ عيش الفلاسفة وتسلسل الأفكار الفلسفية في سياق تقدمي رغم تفاعلاتها الدائمة بين قديمها وجديدها في طرق تفكيرها.

    

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال