في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

تلخيص كتاب الإنشاء الفلسفي، طرق، نماذج، تمارين لهنري بينا رويز

 مريم فرحان وأحمد تومليلت

    

   تستلهم  الفلسفة من تاريخها  معالم التمظهر البيداغوجي المنتظر للتغلب على بعض الصعوبات. هذه هي الإشكالية التي توجه عملنا و تلك بعض المسلمات التي تترجمها الإشكالية كما سنرى ،إذ لا تتحدد هذه الأخيرة ، بنسق من المسلمات و الإشكاليات فقط و إنما تتحدد أكثر بالطريقة النوعية التي تطرح بها  تلك الإشكاليات، و التي تتحدد أيضا بنسق من الشروط و التمثلات الخاصة بسياق تاريخي و ثقافي معطى. يحددها جملة المسلمات  التي ترسم الحدود و التي يتم البحث ضمنها و مجال البحث نفسه،   ومستوى عمق المعالجة ومدى عموميتها. فمن السؤال عن مصدر الصعوبات إلى الإشكال ومنه إلى الإشكالية،و إذا تقرر هذا فماهي الإستراتيجية المقترحة للتغلب على هذه الصعوبات كما طرحها الإشكال السابق؟  سننطلق من أجل الإجابة على هذا الإشكال من وجهة نظر"هنري رويس" في كتابه   الفلسفة/ الإنشاء/ المنهج/ الأمثلة و التمارين. و بالضبط في "الفصل الخامس" من الكتاب ،   ويحاول فيه تحديد كيفية استعمال الرصيد الفلسفي،  وتحديد جملة من المفاهيم التي يجب التمكن منها  و تحديد وسائل الإثبات في الفلسفة. و يمكن تلخيص عناصر الإشكالية التي توجه بحثه في المسلمات التالية:                                                             

1- إن التمكن من الرصيد الفلسفي و معرفة كيفية استعماله عنصر من عناصر الإستراتيجية الديداكتيكية  التي ينتظر اعتمادها لتعليم الفلسفة  و تعلم التفلسف.                                 

2- إنه لامتلاك "رصيد فلسفي" ، ليست هناك وصفات جاهزة،كما أن الأمر لا يقتضي انتظار تحقق معجزات، فالتمرين المتكرر على التفكير المنهجي والمتنوع في  قضاياه هو الذي يقود إلى  تكوين ثقافة فلسفية حقيقية تجمع بين قراءة المؤلفات العظيمة والمقاربة الفلسفيةللإشكالات.                                                                                        

 3- إن درس الفلسفة لا يدعي خلق القدرة الأصيلة على التفكير التي يتوفر عليها كل واحد، كما أنه لا يبحث عن تحقيقها عبر مذهب فلسفي، إنه يحرص بكل بساطة على إبراز تلك القدرة وبيان القضايا التي تنصب عليها مع الوعي بأنه حرية التفكير، تشكيل هدف هذه الممارسة و وسيلتها التفكير و يكفي إبرازها عبر الخطط الذهنية و تقنيات التحليل التي يتطور فيها ذلك التفكير طبقا لمتطلبات الصرامة و الحقيقة التي تسيره.                   

5- ككل تخصص  تحتاج الفلسفة إلى دراسة ميتودولوجية إلا أن هذا لا يعني تعلم و تعليم وصفات صورية يعفينا تعلمها عن التفكير، و ذلك لأنه في كل مرة تكون مناسبة للتفكير سواء تعلق الأمر بإشكال خاص بالحياة اليومية أو بمقاربة موضوع إنشائي، فالتفكير لا يمكن أن يوصف في استقلال عن المحتويات  التي يتجسد من خلالها  و ينتج.                          

فليست هناك وصفات جاهزة للتفكير كالألبسة الجاهزة  فالمعنى الوحيد و الممكن لميتودولوجيا  فلسفية  هو تمكين التفكير من الاغتناء، فعندما توصف تقنيات التنظيم و التحليل والتعبير كالخطط الذهنية المعتمدة في مقاربة سؤال معين، فإننا نبين بذلك علامات و أمثلة لفعل يلتزم بمتطلبات تفكير صارم. وفي هذه الحالة كما في غيرها  لا ينتظر حمل المتعلم على التقليد السلبي، فما ينتظر هو أن نشهد بإمكانية  تفكير من هذا النوع وهو عمل لابد منه للارتقاء إلى مستوى التفكير النقدي.                                                          

 6- يستشهد "هنري رويس" بقولة "هيجل" الشهيرة التي يؤكد فيها أن ممارسة التفكير الفلسفي ليست ممكنة للجميع لمجرد امتلاكهم أداة التفكير وهي العقل ، فلابد من تحمل المشاق و المحن لتعلمه و ممارسته تماما كماهو الشأن في العلوم و الفنون و المواهب و التقنيات. يقول هيجل " بالنسبة لكل العلوم و الفنون و المواهب و التقنيات يسود الاعتقاد بأنه يجب أن نتحمل المشقة و نبدل الجهد لتعلمها و ممارستها. فإذا لم يكن بمقدور كل أحد نمنحه الجلد و الأدوات لكي يصنع الأحذية فكيف يسود الاعتقاد في عصرنا بأنه بإمكان كل واحد  منا وفي الحين أن يتفلسف و يقدر الفلسفة لمجرد أنه يمتلك وحدة القياس الضرورية في عقله الطبيعي، و كأن كل واحد منا لا يمتلك في قدمه قياس حدائه. يبدو أنه ينظر إلى امتلاك الفلسفة في غياب المعارف و الدراسات و أن هذه تنتهي حين تبدأ الفلسفة. فغالبا ما اعتبرت الفلسفة معرفة صورية و خالية من المحتوى، إلا أنه لا يتم الانتباه إلى أن ما يعتبر حقيقة تبعا للمحتوى في أية معرفة أو علم كيفما كان لا يمكنه أن يستحق اسم حقيقة فلا إذا اعتبرته الفلسفة كذلك.                                                                                                 

انطلاقا من هذه المسلمات تناول "هنري" كيفية استعمال الرصيد الفلسفي. و يقصد بالرصيد الفلسفي عناصر المعارف و التفكير النقدي المستوعبة خلال الدراسة و عبرها في إطار درس الفلسفة و القراءات التي يستلزمها ، لتحقيق هذا الاستيعاب  يؤكد الكاتب أنه لابد من توفير ثلاثة شروط:                                                                                        

1- اكتساب رصيد فلسفي و يميز هنا بين الفهم المنطقي لتحليل مقدم في درس معين أو دروس أو نص، وبين استيعاب ذلك التحليل في إطار خطة عقلية شاملة تجد فيها الإشكالات الأساسية و أهم القضايا موضوع التفكير مكانها بالتحديد و تندمج في مجموعة من العلاقات المتبادلة. ومن هنا فلابد من اتباع طريقة فلسفية في أطار بنية تحكم استيعاب محتوى معينا مثلما تحكم فهمه الدقيق.                                                                                   

2- تجريب فعلي للرصيد الفلسفي الذي تم فهمه و تخزينه و تذكره و موضعته  ويتم ذلك خلال العمل الفلسفي  عند توظيف ذلك الرصيد في القضايا المقترح التفكير فيها.              

3- تحويل الرصيد الفلسفي المجرب إلى معرفة فعالة و قابلة للاستعمال، أي إلى معرفة إجرائية تدرج ذلك الرصيد المجرب في تركيب دينامي يكتسب فيه ذلك الرصيد كل خصوبته. و لتحقيق هذه الشروط لابد من تحقيق الأهداف التالية:                                 

*تحديد المفاهيم المفاتيح لأنها تشكل الحد الأدنى من المفاهيم و العمليات المطلوبة بكيفية وجيزة واضحة، بالإضافة إلى مستويات التفكير و أنماط التحليل التي ينتظر العمل على تطويرها و ذلك لوضع حد للألفاظ الفضفاضة التي تحجب فراغ المحتوى.                     

* تحديد خلاصات منهجية تحدد كيفية تسخير تلك المكتسبات في إطار ديناميكي منطقي.    

* تحديد تقنيات البرهنة الفلسفية، و كشف كيفية استثمار المعارف في إطار تفكير منهجي متقدم لمعالجة موضوع معين.                                                                           

* تقديم أمثلة من إنتاج الفلاسفة كنماذج لتوضيح تلك التوجيهات المنهجية لتمثيلها و تنوع مجالات تدخلها.                                                                                            

فبالنسبة للنقطة الأولى وفي إطار تحديد المفاهيم المفاتيح التي ينتظر التمكن منها حرصا على تحديد طبيعة التمثلات التي تشكل مكونات أساسية للخطاب الفلسفي كالقضية و الأطروحة و السؤال و الإشكال و الإشكالية. فالقضية هي الموضوع المطروح فهي تشمل ما يقترح التفكير فيه و ما يراد تحليله. فأما الأطروحة فهي عبارة عن موقف فلسفي محدد فهي قضية تتضمن حكما، وهو ما يفترض وجود سؤال محدد تجيب عنه. أما السؤال فغالبا ما يعرض في صيغة استفهامية أطروحة أو رأيا يجب مناقشته و يمكن في بعض الحالات أن يتطلب تحديد تصور معين. و يؤكد على ضرورة تجنب الخلط بين السؤال و الإشكال، فالقضية الاستفهامية كأن نقول مثلا ما هو الحدث التاريخي؟ سؤال، أما القضية الاستفهامية هل يوجد علم للتاريخ؟ إشكال،وفي حديثه عن الإشكال الفلسفي يؤكد على أنه يعتبر مرحلة أساسية في التفكير الفلسفي النقدي و الإشكال يدعو إما إلى البحث عن نسخة معينة انطلاقا من معطيات معروفة في البداية و إما أنه يتساءل عن دواعي بحث معين و إما إلى البحث عن طريقة أو مسلك للاقتناع برأي أعطي كنتيجة، فكمثال لتوضيح التعريف الأول ننطلق من الأطروحتين التاليتين:                                                                                                      

الأولى: أن المجتمع غير عادل أخلاقيا                                                                 

الثانية: كل إنسان يتطلع إلى حياة عادلة أخلاقيا.                                                       

فانطلاقا من هاتين الفرضيتين نصوغ الإشكال كما يلي" هل يمكن أن نعيش حياة عادلة أخلاقيا في مجتمع ليس كذلك" و يفضي هذا الطرح إلى فرض مجموعة من الأسئلة منها، ما هي الحياة العادلة، و ما هي معايير العدل الأخلاقية، يؤدي التساؤل عن طريقة طرح إشكالية مرتبطة بأسباب وجود و مآل السؤال الفلسفي نفسه. أما بالنسبة للتعريف الثاني للإشكال فيوضحه المثال التالي، نعطي حدثا كنتيجة و يطلب بيان الخطة العملية التي تؤدي إليها كأن ننطلق من ملاحظة أن الإنسان قد يكذب على نفسه و نطرح الإشكال: كيف يمكن أن نتصور إمكانية الكذب على الذات؟ و تفضي المعالجة التحليلية لهذا الموضوع إلى بيان بداهة إشكالية سيكولوجية تقوم على التأكيد على أن الجانب العقلي الواعي ليس سوى جانب من الذات البشرية فمن هذه الحالات يتخذ التفكير الفلسفي طابعا صاعدا. فمن السؤال المباشر إلى الإشكال ومنه إلى دلالته الفلسفية، فإلى الإشكالية التي تجعله ممكنا.                               

وعن الإشكالية يقرر أن مصطلح الإشكالية تغطي مجالات مختلفة:                              

* فعلى العموم تعتبر الإشكالية جملة الإشكالات التي يمكن أن نطرحها بصدد مجال من مجالات التفكير.                                                                                            

* و بكيفية أدق تعتبر الإشكالية الطريقة التي تطرح بها تلك الإشكالات و شبكة الأسئلة التي توجه التساؤل.                                                                                               

* هذه الطريقة في طرح الأسئلة يحددها نسق من الشروط الخاصة بإيديولوجية فترة معينة وبجملة التمثلات الموجودة في سياق ثقافي و تاريخي معطى.                                     

الإشكاليات، لأن أسئلة معينة لا تظهر إلا في إطار إشكالية معينة. هكذا أشار ماركس مثلا أن الفلسفة بعد" هيجل" ظلت حبيسة الإشكالية الهيجيلية. أي نمط التساؤل الهيجيلي بعيدا جدا عن فحص أسسها الفلسفية العامة، فكل الأسئلة التي طرحها النقد الألماني و بدون استثناء نبعث من أصل فلسفي محدد هو النسق الهيجيلي، وليس ذلك في الإجابات و لكن قبل ذلك في الأسئلة نفسها. يقول ماركس في توضيحه اختلاف الرؤى بين إجابتين: " بخلاف الفلسفة الألمانية التي تهبط من السماء إلى الأرض فإننا نصعد من الأرض إلى السماء، و بتعبير آخر فنحن لا ننطلق مما يقوله الناس، يتخيلونه، يتمثلونه لا ولا مما هم عليه في الكلمات، لا ننطلق من الفكر، الخيال ومن تمثلاننا للآخر. لنصل بعد ذلك إلى البشر الفعليين، لا إننا ننطلق من البشر في أنشطتهم الواقعية، فانطلاقا من عمليات الحياة الواقعية نستطيع أن نتمثل أيضا تطور الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لتلك العمليات نفسها. فليس الوعي هو الذي يحدد الحياة و لكن الحياة هي التي تحدد الوعي.                                                      

* يستنتج من هذا أن كل إشكالية هي بطبيعتها محدودة، فالحدث أو الظاهرة أو التصور يتخذ شكل إشكال معين ضمن شروط محددة. فالإشكالية تظهر أسئلة و تحجب أخرى. فإنتاج المعطيات العلمية مثلا كما يحرص الإبستيمولوجيون على إبراز ذلك يتم تبعا للشروط العامة للمعرفة في فترة معينة. و يخلص إلى أننا نتعرف على إشكالية معينة ونحدد طبيعتها إما      بإبراز الفرضيات التي تعتمدها أو ببيان الحدود أو الشروط التي تعمل داخلها وهو ما يمكن أن يظهر في حدود المجال الذي تشتغل فيه و مدى عمق و شمولية المعالجة.                    

 فالمصطلح العام  هو التمثل على العموم، إذ يشكل التمثل المصحوب بالوعي أحد أنواعه، والإدراك الذاتي الذي يعود إلى ما طرأ على أحوال الذات فقط هو إحساس.                     

أما الإدراك الموضوعي فهو معرفة و هذه إما حدس و إما مفهوم. فالحدس يرجع مباشرة إلى الموضوع وهو متفرد بينما المفهوم يرجع إلى الموضوع بواسطة رمز يمكن أن يكون مشتركا بين عدد من الأشياء. وعن المثال يؤكد هنري، أن المثال لا يرقى إلى مستوى البرهنة أو الدليل و الإكثار من الأمثلة يدخل في إطار تقنية الإقناع، و لكنها لا تقوم مقام الاستدلال، فأمثلة الجمال كما أكد سقراط لا تكفي أو تسمح بتحديد مفهوم الجمال. وظيفة       المثال: الحالة الخاصة و الإحالة على ما هو معيش. إنه لا يشكل في   حد ذاته استدلالا، إلا أن وجود أمثلة متعارضة من شأنه أشكلة القيمة البرهانية للمثال. يحذر الكاتب "هنري رويس" من هذا المنطلق من اعتماد المثال أساسا و منطلقا للاستدلال واعتباره عرضا عن البرهنة الفعلية أو الاكتفاء بتعداد الأمثلة.                                                              

الشروط النقدية للاستعمال الجيد للمثال:                                                               

لاستعمال المقال لابد من طرح التساؤلات التالية:                                                    

- هل يندمج في الحجاج العام.                                                                           

- هل حددت شروط إدخاله بالتحليل النظري نفسه.                                                 

- هل يمثل قاعدة عامة أو مجموعة تحدها نفس خصائصه.                                        

- هل يسمح تبعا لذلك بالاستدلال الذي يسعى إلى إقامته.                                          

- هل يشكل بالعكس من ذلك حالة خاصة لا تبرر رفض تعميمات تؤكدها الحالات العامة. 

 

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال