في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

 تلخيص كتاب كانط ورهانات التفكير الفلسفي ـ من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقدـ

ليلى رابح

 

   كلنا نعلم أن كانط يميز بين التفلسف وفكرة الفلسفة إذا اعتبر فكرة الفلسفة نسق في فكرة لعلم ممكن في حين أن فعل التفلسف موجود حقيقة حيث به يخرج الإنسان من كل نزعة دوغمائية حيت يعتبر أنه لا يمكن تعلم الفلسفة فما يمكن تعلمه هو التفلسف الذي هو تفكير يفحص مبادئ الأنساق الفلسفية ومصادرها لأن التحكم هو خاصية إنسانية لأنه استخدام لملكة العقل وهو استخدام يقوم في الأساس على الحرية وكل ممارسة للتعلم من طرف العقل هي في نفس الوقت ممارسة للحرية ومن هذا الإطار يميز كانط بين التفلسف كفاعلية عقلية مادة وبين الفلسفة كمعرفة،حيث أنه لا يمكن تدريس الفلسفة وينتفي عنها ذلك حين أن التفلسف يستوجب ذلك لأن الفلسفة تأمل نقدي ولا يمكن أن نختزلها في كونها مادة مدرسية حيث انه إذا فعلنا ذلك سينتفي عنها طابعها التأملي النقدي لهذا يطرح سؤال أساس ما مكان التعليم الفلسفي داخل الدائرة العمومية للحقيقة؟ كيف يمكن للفلسفة أن تؤمن وجودها كمؤسسة بالاكتفاء فقط بتعليم أفعال التفلسف دون الاهتمام بتعليم التراث الفلسفي الذي يشكل ذاكرتها المؤسسية؟ كيف يمكن للتعليم الأكاديمي أن يستغني عن تاريخ الفلسفة وأن يكتفي فقط بتوليد الحاجة إلى استعمال العقل الخالص وحده؟ هذه هي إشكالات بحث كانط في قضايا التعليم الفلسفي وهي سيجيب عليه من خلال هذا التلخيص.

    حيث يرى كانط أن بإمكان الدولة عن طريق الحكومة أن تشرف على العمل الجامعي، لكن ليس لديها الحق أن تمارس الرقابة على المعرفة لأن سلطتها ليست قائمة على المعرفة وعمل العقل، فالدولة تتدخل في الجامعة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ خاصة المعارف الطبية والقانونية والتيولوجية والتي لها تأثير على عقول الشعب فتتدخل في وضع برامج مقررة من طرفها مقترنة بها رسميا من أجل خدمة مصالحها.حيث أن كلية التيولوجيا تستمد معارفها من الكتاب المقدس وليس من المذهب الديني الطبيعي الذي يقيمه العقل؛ فهي تقوم بطرح مفاهيمها ليس للنقد بل انطلاقا من التصديق القبلي والإيمان الدوغمائي حيث توجه العقول توجيها دينيا ومحددا سلفا بتعاليم الكتاب المقدس. أما أستاذ القانون فيستمد مضامينه من الحق المدني الوضعي وليس من الحق الطبيعي الذي يؤصل العقل ومبادئه. في حين يستمد أستاذ الطب معارفه من القواعد الطبيعية المقررة من طرف الدول المراقبة لممارسة الأطباء. فإذا حاولت هذه الكليات الثلاث التي هي أساس الدولة أن تستمد مضامينها من العقل فأنهما تمس سلطة الإدارة وتدخل المجال الخاص بكليات الفلسفة وذلك لأن الإدارة المشرفة على الجامعة تريد تعليم محددا سلفا دون مجزها باعتبارات فلسفية.فيقول كانط في هذا الصدد أن السلطة السياسية داخل الجامعة تريد الفصل بين مجالات التيولوجيا والقانون والطب وبين الفلسفة، لهذا فالدولة تجعل من كلية الفلسفة في المرتبة الدنيا بطبعها المنغلق على السلطة السياسة؛لأنها تقوم على أساس النقد بطبيعتها، فكلية الفلسفة لا تريد أن تؤمن هيمنة الدولة بل هدفها البحث عن الحقيقة لذلك تقوم بنقد جميع المعارف وتخضعها للمحكمة العقل.

    تتكون كلية الفلسفة من شعبتين: الأولى هي المعارف التاريخية تشمل التاريخ والجغرافيا والفيلولوجيا العلمية والدراسات الإنسانية وعلم الطبيعة، بينما الثانية تشمل المعارف العقلية الخالصة من رياضيات وفلسفة والميتافيزيقا والطبيعة؛ لهذا فهي شاملة لجميع المعارف البشرية حتى معارف الكليات المسماة بالعليا فهي لا تدرس القوانين أو طرق العلاج ولا التيولوجيا ولكنها تبحث في أساس هذه المعارف ومبادئها داخل العقل وتفحصها فحصا نقديا ولا تتبناها كما هي، فمادام العقل هو المرجع الأساسي فعلى كل الكليات أن تخضع لمبدأ العقل فكلية الفلسفة مهمة لأنها هي التي تعطي الأساس العقلي لكل الجامعات، فمصداقية الفلسفة تتبناها في كونها تبحث عن الحقيقة لهذا وجب أن تتكلف بمراقبة المعارف التي تدرس في الجامعة وهي رقابة عقلية باعتبارها شكل مؤسس للعقل، فالدولة عليها أن تعي أن الرقابة السياسية على العلوم مجرد سلطة خارجية وأن الرقابة العقلية هي الكفيلة بإنتاج المعارف للعقل؛ لهذا كان يجب عليها حسب كانط أن تجعل كلية الفلسفة هي العليا لكي تراقب الكليات الأخرى، فالجامعة يمكن أن تمارس الرقابة ولكن عن طريق الاستناد على العقل بواسطة النقد الفلسفي.

    ينتقل بعد كذلك كانط إلى تغيير مكان المواجهة من داخل الجامعة إلى خارجها وذلك عن طريق النقد المتعالي حيث ستصبح المواجهة بين سلطة النقد الفلسفي وبين سلطة الدولة السياسية التي تقوم بمراقبة كل ما يمكن أن يتحكم في المعرفة، ويقوم برصد التصادم بين السلطتين السياسية والمعرفية مند أفلاطون حيث أن هذا ليس بشيء جديد، هكذا أخد كانط على عاتقه واجب مدافعته عن سلطة الفلسفة ومؤسساتها داخل المجتمع الحديث وسعى إلى أن تحتل الفلسفة مكانة فعلية تليق بها وبمستواها الفكري رغم تأكيده على أن الكليات العليا لن تسمح للكلية الدنيا في التدخل في معارفها. فالتيولوجيا تنطلق من الكتاب المقدس والممارسة الكنسية، والقانون ينطلق من القانون الوضعي، لهذا يرى كانط أنه يجب على هذه الاختلافات أن تبقى محصورة في الفضاء الجامعي وألا تتحول إلى صراعات اجتماعية تستقطب جمهور الشعب وتورطه في مواقف لا يعي منها شيئا؛ يجب على الصراع أن يبقى داخل فضاء الكلية لأنه سيكون مشروعا أما عندما يتم استقطاب الشعب لمساندة الكليات العليا لا يظل الصراع مشروعا لأن الكليات العليا تراهن على استدراج الجمهور. فكل كلية تريد أن تكسب تعاطف الشعب بدعوى أنها أعرف من غيرها بوسائل سعادتهم رغم اختلافهم في تصور السعادة لأن الشعب في قليل من الأحيان يعطي اختيار سعادته لمبادئ العقل مثل الحرية، الواجب، الاستقلال الذاتي، بل يرى حريته في ميله إلى غايته الطبيعية من تأمين الثروات وحماية الممتلكات والاستمتاع بالملذات وتوفره على الصحة الجيدة وامتداد العمر والخلاص بعد الموت، هذا ما يجعل الكليات العليا باستغلال سذاجة الشعب لأن أغلبيتهم لا يفهمون خطابات الفلسفة وهم يعولون على خريجي الكليات العليا "التيولوجيا، القانون ، الطب"، من أجل تحقيق غايتهم وهذا ما يجعلها تنتصر خاصة وأن الشعب دائما يقوم بمقاومة التنوير الذي تريد كلية الفلسفة أن تنشره؛ لأن الشعب دائما يختار ما يبدو سهلا من أجل عدم إعمال عقله ويستنيم دائما للغير من أجل أن يفكر له لأن ذلك يتطلب منه جهدا، فهو يفضل رجل الدين بأن يفكر له في الخلاص الروحي ورجل القانون أن يفكر له في القوانين،الطبيب أن يقرر بدل منه أطعمته.

من هنا يخرج كانط من نقد الكليات إلى نقد الشعب لهذا وجب أن يتجه نقد الفلسفة إلى هدم تلك القناعة التي يؤمن بها الشعب والتي تعتبر عائقا أمام التنوير وتحطيم المعرفة التي يقدمها خريجو الكليات العليا والتي تجعل من الشعب دائما في تبعيتهم دون أن يفكروا. من هنا يرى كانط أنه على كلية الفلسفة أن تقوم بمواجهة السلطة السياسية والكليات فالمعجزة الحقيقية هي أن ينجح التنوير داخل عقول الشعب، فلا نجاح إلا بالعقل ذاته وليس بإتباع خريجي الكليات العليا لأنها في نظر الناس هي التي تلعب دور المخلص لهذا ستظل هذه الكليات دائما في صراع مع كلية الفلسفة مستغلة سذاجة الشعب.

لهذا يرى كانط أن الصراع الذي يجمع كلية الفلسفة بالكليات العليا هو صراع غير مشروع لأنه يخرج من إطار الجامعة الذي هو المجال الحقيقي الذي يسود فيه النقد إلى مجال خارج الفضاء الجامعي، فالكلية الفلسفية حسب كانط تعيش صراعا ثلاثيا:

1.    صراعا مع الكليات العليا وهو صراع داخل الفضاء الجامعي وهو مشروع ذو طابع أكاديمي.

2. صراع مع السلطة السياسية التي تقوم باستغلال معارف الكليات العليا وتوجهها لصالحها وتهيمن بها على الشعب بواسطة خريجيها.

3.    صراع مع سذاجة الشعب الذي يقاوم التنوير والذي توجد قاعدته في النقد الفلسفي.

   من خلال هذه الصراعات يتبين لنا أن هناك عوائق كبيرة أمام التنوير الكانطي والانتصار العقلي على الدوغمائية والاستبدادية والقصور الذاتي السائد، إلا أن ثقة كانط في التنوير كانت كبيرة فعلى الشعب أن يخرج من القصور الذي يعانيه بفعل التربية الدائمة بمختلف أنواعها. لهذا وجب تغيير مكانة الفلسفة داخل فضاء الجامعة وجعلها تحتل مكانتها الفعلية من أجل تفكير نقدي يقوم على إعمال العقل وإنتاج المعارف وتنظيمها داخل الجامعة.

إذا تعتبر ممارسة التساؤل والنقد وخلخلة كل الأحكام والأفكار الجاهزة وممارسة الحجاج من أجل الإقناع والتبرير والاقتناع، هي غاية الدرس الفلسفي وذلك بجعل المتعلم متمرس على أساليب المسألة والتحليل النقدي والمحاجة لأن النقد الفلسفي هو ممارسة للنقد الاجتماعي والسياسي.

أما بخصوص صراع الكليات فكانط له الكلمة الأبرز في هذا السياق حيث يرى ضرورة توفر كلية الفلسفة على حرية الحكم كشرط ضروري لقيام جامعة مستقلة لأنها قائمة على أساس الفكر لهذا يجب أن تكون الفلسفة حرة وذلك لكونها ضامنة للحقيقة فالفلسفة مطالبة من هذا المنظور بمراقبة الكليات العليا بخصوص الحقيقة التي تنتجها هذه الأخيرة لأن الجامعة يجب أن تنظم وفق فكرة العقل ووضع المنفعة التي ستحققها الكليات العليا لفائدة الحكومة في المقام الثاني، فالأمر لا يتعلق بحرب بين الكليات إن كانت كلية الفلسفة مطالبة بعدم الاستسلام أمام الخطر الذي يتهدد الحقيقة مادامت هي المسؤولة عنها، كما أن الإعلان على استقلالية كلية الفلسفة لا يمس بهيبة الدولة لان في إطار الصراع بين الكليات على الدولة أن تلعب دور المتفرج الرزين ومن مصلحتها عدم التدخل في الأمور العلمية وفي قيمة الحقيقة لأن مقامها لا يسمح لها بأخذ مكان العلماء لهذا اقترح كانط ما  يمكن تسميته ب "استعارة البرلمان" فالكليات العليا تشغل يمين برلمان العلم وستدافع عن قوانين الحكومة كما هو مألوف في الدساتير الحرة. سيأتي يوم تصبح فيه الكلية السفلى هي العليا حيث تجد الحكومة في حرية كلية الفلسفة الوسائل الكفيلة لتحقيق غايتها أكثر مما ستجده في سلطتها المطلقة الخاصة بها.

تشكل الفلسفة معرفة عقلية مادامت تعتمد على نشاط العقل الخالص ومن جهة ثانية  شاملة لأنساق خطابية مختلفة ومتباينة فيما بينها من حيث مبادئها ونتائج نظرياتها، حيث يرى كانط أن الطريقة التي تدرس بها الفلسفة لن تعلم التفلسف بل سوف تكون مجرد تعليم للمعارف تاريخية جاهزة؛ أي أنه تعليم قائم على إعادة إنتاج ما أنتجه الفلاسفة السابقون بكيفية مختلفة وهذا ما يطلق عليه "البحث التاريخي التيولوجي". فتعليم الفلسفة يحول الأصالة أو التفلسف إلى تقليد وإعادة إنتاج، من هنا يطرح سؤالا أساسيا هو كيف يمكن تعلم التفلسف الذي هو غاية كل تعليم فلسفي داخل العصر الحديث؟ وكيف تكون المؤسسة الفلسفية مشرعة لاستعمال العقل والنقد المتعالي ومجالا لتعلم الفلسفة لا فضاء لتكرار تاريخ الفلسفة واستهلاك الأفكار الفلسفية المعطاة؟.

يرفض كانط اعتبار الإحساس أو الإلهام الذاتي كعقائد للتفلسف، ويستبعد ما يسميه الحس المشترك كقاعدة بديلة له، فالعقل لا يستطيع على التفلسف بطبيعته دون تربية سابقة تمس قدراته الفكرية والمعرفية، فما يتطلبه العصر الحديث حسب كانط هو عقلية منفتحة على العلوم ولا مكتفية بالأراء والمعارف المشتركة، فهو لا يرفض العقل المشترك ولكن الموقف الإمبريقي الذي يجعله قاعدة كل تفلسف. فتجربة التفلسف عند كانط تقوم على العقل الخالص وحده في نشاط كوني فهي أسمى أنشطة العقل، فالتفلسف لطالما كان نمطا للفكر القائم على الحياة والإرادة الشخصية ونقدا دائما يجدد ذاته بذاته فهو ليس ترف فكري ولا نشاط تقني.

ومن هنا تعود الضرورة  الفكرية والبيداغوجية للنقد والاستعمال المتعالي للعقل وذلك بخضوعه إلى تربية صارمة تمنعه من السقوط في النقائض والأغاليط، فالنقد هو تشريع للعقل انتهى بالوصول إلى الميتودولوجيا المتعالية إلى صياغة القانون لاستعمال العقل في التفلسف وهي مجموعة قواعد موجهة لمن يريد تعلم التفلسف، لأن هذا الأخير لا يمكن اعتباره ممكننا إلا باعتباره نقدا يؤصل كل معرفة ممكنة داخل بنية العقل البشري ويضع حدودا لكل استعمال مشروع للعقل اتجاه مواضيع التفلسف. فكيف إذن يمكن تعلم التفلسف؟

يرى كانط أن التفلسف ينبغي أن يكون جهدا شخصيا لأن النقد يمارس ذاته كتفلسف فإذا كان تاريخ الفلسفة مؤشرا على التعدد والصراع فإن مستقبل الفلسفة مؤشر على تحقيق ما يسميه كانط "السلم الفلسفي" عبر إقامة فلسفة تكون واحدة مقبولة لذا الجميع، لكنها لحدود الآن ظلت مجرد فكرة عن عالم ممكن لا وجود له، لهذا يظل النقد أو التفلسف الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الطريق الذي يقود الفلسفة، فالنقد واقع أساسي للتفلسف لا لتاريخ الفلسفة فليست هناك فلسفة صحيحة، فجميع الأنساق الفلسفية على مر التاريخ هي استعمال للعقول وممارسة القدرات النقدية عليه، وهذا المعنى السياقي الفعلي لعبارة كانط الشهيرة "تعلم التفلسف" فكانط يربط التفلسف بمدرسة النقد المتعالي لأن تعلم التفلسف هو جعل التعليم الفلسفي في إطار يتعلم فيه الفرد أفعال النقد والتحكم في المهارات والقدرات، فبواسطة النقد والنقد وحده نهيئ شباب المستقبل عوض أن نشحن أذهانهم بأنساق فلسفية جاهزة.

أما في الجزء الذي جاء تحت عنوان نحو تاريخ فلسفي للفلسفة فكانط يضع تاريخ الفلسفة في مرتبة أدنى من تعلم التفلسف؛ فهو لا يلغي تاريخ الفلسفة ولا ينكر أهميته لأن تاريخ الفلسفة يحمل مادة خصبة للقيام ببحوث أولية تنمي القدرة على التفكير والتأمل عند الفرد. فكانط لم يغفل الفلاسفة الذين سبقوه ولكن ذلك لم ينسه الدرس النقدي فعلى المتعلم أن يعرف من تاريخ الفلسفة أنه توجد كيفيات مختلفة لتفلسف والعودة إلى المبادئ العقلية الأولى من أجل تأسيس نسق فلسفي حتى ولو تغيرت الكيفيات فإن النقد يعترف بوجود تاريخ للفلسفة وإمكانية تعلم التفلسف.

يقبل كانط تعليم تاريخ الأفكار الفلسفية ولكن شريطة أن يخضع للنقد وذلك باعتباره حدتا في تاريخ الفكر الحديث، فعن طريق النقد يتم تصور تاريخ فلسفي للفلسفة يؤسسه العقل والذي اسماه كانط "تاريخ متفلسف حول الفلسفة" وتمثله اركيولوجيا الفلسفة لأنه كان مهتما بضرورة قيام تاريخ فلسفي للفلسفة خصوصا في أواخر حياته، وهو تاريخ كوني متعالي للعقل أساسه النقد إلا أنه لم يتسنى له ذلك، فدور النقد الفلسفي هو البحث في جذور المعرفة داخل العقل وذلك من أجل الكشف عما يوحدها حيث لا يمكن للتعليم الفلسفي أن يخرج عن هذه الغاية.  يؤكد كانط على المزواجة بين ضرورة النقد الفلسفي "ضرورة التفلسف"وضرورة وجود نسق ينظم المعارف والمضامين المفكر فيها وفق ما يسميه غايات سياسية كونية لا غايات تقنية ضيقة بهذا كان التعليم الفلسفي ضروريا لكل تكوين مدرسي متخصص.

من خلال ما سبق نخلص إلى أن ما يقدمه التعليم الفسلفي هو تنظيم نسقي لمعمار العقل ومعارفه واستنادا إلى العلاقات الداخلية التي تربط مختلف فروع المعارف وكذلك و الاستناد إلى الغايات العملية الكونية المختلفة التي يضعها العقل الخالص والعملي، وهذا ما يستهدفه التكوين الفلسفي؛ أي ربط الفرد بمجال الإنسانية عامة ومن هنا يفهم الفرد ذاته من خلال ثقافته ومعارفه داخل نسق الثقافة والقيم التي يقيمها العقل الفلسفي وينظم استعمالها وفق غايات عملية يشرعها العقل.

في حين يختص الفصل الثاني المعنون بتعلم الفلسفة بمشكلة التعليم الفلسفي حيث يعتبر كانط

التفكير الفلسفي أحد مناصر التعليم الفكري التي تكون القدرات الذهنية وتتويج له لأن التفكير الفلسفي يحتاج نشاط عقلي خالص ولهذا وجب على متعلم التفلسف أن يكون له استعداد جيد على بناء الأحكام الإمبريقية أولا ثم بناء المعارف حول الظواهر.

إن بيداغوجيا التعليم الفلسفي عند كانط تقوم على أساس استعمال العقل بشكل خالص إضافة إلى هذا وجب تكوين الفهم وإصدار الأحكام بخصوص الظواهر فالفهم يقوم بتنظيم المعارف التركيبية القبلية وإعطاء وحدة المعرفة. فالعقل الخالص ينظم التفكير في تلك المعرفة ويعطيها وحدتها المتعالية من جهة ويربط الموضوعات بغايات كونية تهم المجال العلمي بكامله من جهة ثانية.ونحن عندما نكون أمام هذا الاستعمال الخالص للعقل هو الموضوع الأساسي للبيداغوجية الكانطية التي يقوم باستمداد مبادئها من النقد المتعالي العقلي لأنه هو الذي يحدد للبيداغوجيا توجهاتها الأساسية بخصوص موضوعات الفكر الفلسفي ومبادئ التفلسف فالبيداغوجيا عند كانط لا تجد ذاتها إلا في فلسفة النقد حيث يرى أنه لا يمكن قيام بيداغوجيا خاصة بالتعليم الفلسفي مستقلة عن نظرية النقد المتعالي لهذا وجب وضع النقد كأساس لكل تفلسف مادام هذا النقد يعتمد على العقل في دراسة كل القضايا وهذا ما يجعل هناك صعوبات كثيرة لأن الشباب يتعودون في دراستهم على مواد تعليمية مخالفة للفلسفة مما يخلق لهم صعوبة في كيفية التعامل مع الفلسفة، لهذا يريد كانط إبراز أن التفلسف كفعل للعقل الخالص يتطلب درجة عالية من الاستغلال الذاتي والتفكير الحر والتحرر من جميع الأحكام المسبقة والتحكم في المفاهيم التي سوف يتمثل بها موضوعات الفلسفة ومن هنا يدخل التفلسف في مجال المعارف العقلية في مقابل المعارف التاريخية وهذا هو التميز النقدي الذي يجب على الذات المفكرة الوصول إليه استنادا إلى المعرفة التي تنتجه هذه الأخيرة. في حين المعارف التاريخية تنتج ذاكرة مشحونة بالمعارف ولكن تنقصها القدرة على التفكير خصوصا ملكة الحكم. فالفلسفة مثل الرياضيات ليست جاهزة ولكن العقل من ينتجها فهي تندرج ضمن المعارف العقلية إلا أن هناك اختلاف بينها وبين الرياضيات فهذه الأخيرة تهتم بالكم في حين الفلسفة تهتم بالكيف فالعقل الفلسفي ينتج معارف قبلية لا يتم بنائها بل تكون موجودة داخل الطبيعية بينما العقل الرياضي ينتج معارف في الوقت الذي يبني فيه مفاهيم أيضا.

أما الفصل الأخير في هذا القسم فلقد أختص في الميتودولوجيا المتعالية حيث اختص في الجزء الأول منه فلقد أخذ في مبدأ الميتودولوجيا المتعالية حيث اعتبر الميتودولوجيا المتعالية هي الإطار النظري والبيداغوجي الذي يفكر فيه النقد في ذاته كإجراءات منهجية قواعد موجهة لكل من يريد تعلم التفلسف، فالفلسفة المتعالية هي نموذج لكل تفلسف لأنها بمثابة الأفق التوجيهي لتعلم التفلسف، إضافة إلى ذلك فهي تتضمن مجموعة من القواعد التي تشكل ما يعتبره كانط منطقا عمليا أي منطقا شاملا لتقنيات وعمليات التفكير، فالهدف منها من جهة تعريف التلميذ المبتدئ مسبقا بمصطلحات يكتب بها بعد معرفة دلالتها ويتعلم استعمالها عن طريق المعجم الفلسفي الذي يحتوي على التعاريف والمفاهيم ومن جهة ثانية تستهدف حدود استعمال المعجم بمراعاة خصوصية التفلسف، وتتعدى وظيفة هذا المنطق إلى مستوى تكوين وعي نقدي لدى من يتعلم الفلسفة؛ فالميتودولوجيا تجمع بين وظيفة التحديد المعجمي والنظري للمفاهيم الإجرائية للتفكير عامة وللتفلسف على الخصوص، وبين وظيفة النقد السلبية التي تستهدف من يريد تعلم التفلسف وذلك بحفظه من الوقوع في أخطاء العقل وهذا ذو أهمية كبيرة لهذا اعتبر كانط الميتودولوجيا المتعالية تربية صارمة للعقل الذي يريد تعلم التفلسف،فهي بمثابة النقد الذي ينظر إلى ذاته عبر إجراءات منهجية موجهة لتربية العقل الخالص أي التفلسف.

رأى كانط أن كل أستاذ داخل التعليم الفلسفي له مقياس خاص به لذلك رأى وجوب أن يتوفر التعليم الفلسفي على مقياس مشترك يكون بمثابة مرجع موحد للمعرفة وإجراءات تعلم التفلسف لدى جميع الأساتذة،  فرأى أن المقياس هو المنطق العملي الذي تقدمه الميتودولوجيا المتعالية لأنه سيعصم الأستاذ من الخوض في بعض الضغوط المؤسسية والسياسية التي ترضي السلطة السياسية أو للجمهور المتلقي أو تقديم صورة مشوهة عن الفلسفة.

لقد كان مبدأ التعليم الفلسفي لدى كانط هو التفكير الذاتي حيث كان يراهن على التعليم إضافة إلى اعتماد الميتودولوجيا المتعالية من أجل الاستجابة إلى غايات التنوير السياسية الثقافية كما يشرعها العقل، فلا يجب حسب كانط فصل أهداف التعليم الفلسفي عن الغايات العامة من مواطنة وأخلاقيات لهذا وجب على مدرس الفلسفة أن يكون محفزا لمتعلمي التفلسف وأن يجعل الدرس متكاملا من الناحية المنطقية، هذا ما يسميه "الكمال المنطقي للمعرفة العامة" وهو يقوم على توافق الموضوعات استنادا إلى قوانين العقل ذات الصلاحية الكونية حيث يتلازم الكمال المنطقي للمعارف بالكمال الإستيطيقي لتداول المعارف حيث يضع كانط بعض المقيدات لها:

ـ الكمال المعرفي وجب أن يكون قاعدة للكمال الإستيطيقي.

ـ التركيز على الاهتمام بالجانب الشكلي.

ـ الحذر عند توظيف وسائل التحفيز بشكل يؤثر في المعرفة ايجابيا.

إن تفكير كانط في التعليم الفلسفي كان تفكيرا شموليا لأنه اهتم بتماسك المضامين ونجاح العلاقة التربوية والانصباب على الاهتمام بتقنيات التفكير داخل التفلسف.

التربية الفلسفية للعقل

هناك تقنيات يجب اكتسابها من أجل تعلم التفلسف ويحصرها كانط في أربعة تقنيات

1.    الاستعمال اليقيني للعقل

2.    الاستعمال الجدلي للعقل

3.    استعمال العقل لفرضيات

4.    الاستعمال الحجاجي للعقل                            

الاستعمال اليقيني للعقل: يقصد به استعمال تقنيات للتفكير تكون دقيقة تسمح للعقل بإنتاج المعارف، وأسمى استعمال للعقل الاستعمال الرياضي فلقد استعار كانط بعد التقنيات التي يستعملها العقل داخل الرياضيات مثل التعريف والبراهين في التفلسف.

.التعريفات: هي عملية نقدم من خلالها المفهوم وابرز خصائصه المكونة له والمكملة له بوضوح ودقة.

.الأوليات: هي مبادئ تركيبية قبلية تقنية بشكل مباشر وهي بمثابة مبادئ للبراهين الرياضية وقواعد التفكير يضعها العقل لكي يتحقق تطابق الفكر مع ذاته. يميز كانط بين المبادئ الحدسية في الرياضيات وبين المبادئ الخطابية في الفلسفة، والخلاصة انه ليست للفلسفة أي أوليات تعتبرها ثابتة ومطلقة يمكن البدء منها.

.البراهين: وهي الحجة اليقينية الخالصة حيث يجب على متعلم الفلسفة أن يتعامل مع إجراءات التفكير الفلسفي فهي ليست إجراءات لليقين البرهاني لكن تظل إجراءات التحليل المفاهيم ونقد المواقف.

الاستعمال الجدلي للعقل: يجب أن يخضع العقل دائما إلى النقد وله كامل الحق أن يدافع عن أفكاره وأن يحاج عليه لأن من يتعلم الفلسفة يحتاج إلى تربية جدلية من أجل أن يدافع عن أفكاره الخاصة ضد الغير ووجب الخضوع إلى تربية نقدية تجعله يحاجج وينتقد. فكانط يرى أن الاستعمال الجدلي للعقل أساسي في كل بيداغوجيا للتعلم الفلسفي لأنه يحرر العقل من الدوغمائية ويجعله يكشف القضايا الفلسفية المختلفة ويجعل له القدرة على النقد الذاتي فالشباب في حاجة إلى هذا النقد عوض الخضوع إلى أحادية التفكير لأن الحقيقة هي وليدة النقد والصراع ومن أجل اكتشاف الدوغمائية الفلسفية وجب أولا الوعي بالجهل الذاتي والجهل بحدود استعمال العقل وكلما تم الوعي بذلك كان التوجه إلى الخروج منه وذلك بتحفيزهم على البحث والاكتشاف من جديد، في حين الأمر الثاني يهم الأنانية الفردية لأن التربية الفلسفية عامة والجدلية خاصة تكسر كل ادعاءات الأنانية "الأنانية الفكرية الاستيطيقية،عملية"

استعمال العقل للفرضيات: وذلك لأن الافتراض هو فعل أساسي للعقل والمنتج للمعرفة وهو أحد أفعال التفلسف، فكانط يعرف الفرضية بشكل عام على انه قبول بخصوص حقيقة مبدأ معين انطلاقا من اعتبار كفاية نتائجه،أن أهمية الفرضية تظهر عندما ترتبط بالسياق الجدلي الذي نستعمله فيه هذه الفرضيات مجرد أحكام إشكالية وستظل دائما محل شكوك فقيمة الفرضية ترجع إلى طبيعة التفلسف.

الاستعمال الحجاجي للعقل.يهدف إلى تعلم القدرات على الدفاع عن أطروحة نقدية هذا ما جعل كانط يركز على نسق الحجة داخل عملية التفلسف وقواعد توظيفه. حيت يرى أنه على الحجة أن تكون مقنعة عقليا لأن تستهدف الإقناع القائم على العقل حيث يضع كانط قواعد مكملة للمعيار الثابت للحجاج

   . لا يمكن إقامة حجة متعالية دون التفكير مسبقا في المصدر الذي استقينا منه المبادئ التي تؤسس عليها الحجاج.

   .الاعتقاد بحجة واحدة لدفاع عن كل قضية من القضايا المتعالية.

   .الحجة الفلسفية يميز بينها بين نوعين حجة بالخلف أو الرد إلى المستحيل وحجة ظاهرة أو مباشرة.

من خلال ما سبق يتبين لنا أن كانط ركز على مختلف عناصر تربية العقل الفلسفي وعلى العمل التحليلي للتفلسف المنصب على المفاهيم والمعايير وعلى النشاط الجدلي والحجاجي للعقل فالتفلسف هو نقد وتشريح لبنية العقل وتشريع لأفعاله وصياغة لإشكاليات وقضايا كبرى للتفلسف ذات الطبيعة الأخلاقية والسياسية والثقافية ولقد قدمت الميتودولوجيا المتعالية الشروط الأولية لمن يريد تعلم التفلسف "التحليل، الجدل، الحجاج".

 إن المغزى العميق لمقولة كانط الشهيرة:" لا يمكننا تعلم الفلسفة، بل يمكننا فقط تعلم التفلسف" هو أن درس الفلسفة بما هو مجال للحرية العقلية المتمثلة في التأمل النقدي، يقوم على التفلسف كعملية عقلية، نقدية، تساؤلية مستمرة. الغرض منها إزالة البداهة عن الأفكار المألوفة والأحكام المسبقة، والتخلص من هيمنة الحقائق المطلقة بإعادة النظر فيها وجعلها تتسم بالنسبية والقابلية للتجاوز. فالتفلسف إذن هو "المسار الذي نقطعه من بادئ الرأي  إلى المعرفة. كما أنه يعتمد على القدرات والإمكانات الذاتية للتفلسف باعتباره ذاتا مبادرة، فاعلة، منتجة، لها القدرة على التفكير الحر وإبداء الرأي وتحديد مسارها التعليمي وامتلاك سلطة تكوينها.
وهنا يبرز مفهوم التفكير الذاتي كتجسيد للحرية العقلية وللتأمل النقدي فهو يسمح للفرد بالتساؤل عن معنى وقيمة وجوده والمشاكل التي تطرحها حياته الشخصية والتزاماته الفردية والجماعية.
وبهذا المعنى يجد المتعلم نفسه –في إطار التعلم الذاتي-أمام وضعيات- مشكلة تتطلب منه إيجاد حلول لها اعتمادا على معارفه وإمكاناته وقدراته الفكرية وتجعله متورطا في البحث عن مخرج صنعه هو ولم يصنع له. مواجها لكل العوائق المتمثلة في المكتسبات المألوفة والأحكام المسبقة، موسعا لهامش مبادرته وفاعليته، وهذا ما يجعله تعلمه يتسم بالإيجابية.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال