في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

تلخيص كتاب مقابلات حول تدريس الفلسفة لفرنسوا داغوني

نورة الوردي

 

·       يستهل « François dagognet » كتابه « Entretiens sur l’enseignement de la philosophie »  للاشارة الى اهم المشاكل في تعليم الفلسفة وتبيان ان هذا الموضوع هام جدا ولذلك عليه ان يكون محط اهتمام العديد من المهتمين بهذا الامر وان لا يكون وحده الذي يعطي آراءه لهذه الاشكاليات وقدم في البداية تقييما مركزا لحواره الذي اعتبره ليس موجه فقط لمن يهمهم الامر بل موجه للعالم بأكمله وبين ان من الضروري في البداية تغيير تلك النظرة الشائعة في تعلم الفلسفة لأنها مجال ذو مواضيع مختلفة وان تمت دراستها وتعليمها سيكشف هذا الجانب الاساسي فيها وهذا هو المبدأ الرئيسي الذي كان من الضروري العمل عليه في الثانويات و الجامعات فهنا الكاتب لا يتكلم باعتباره مسؤولا أكاديميا بل باعتباره له تجربة طويلة داخل ميدان تعليم الفلسفة

·       الكتاب الذي بين أيدينا ليس ذو اسلوب تقريري بل جاء على شكل حوار حيث يضم اسئلة واجوبة تم من خلاله تقديم مجموعة من الاسئلة للكاتب تخص مسيرته الدراسية و سبب اختياره لشعبة الفلسفة الى ان وصل الى المنصب الذي هو فيه الآن.

لذلك كان اول سؤال طرح عليه يتخلل البدايات الاولى لمسيرته الدراسيةحيث لم تكن هذه المسيرة عادية بالنسبة له ولم تكن ايضا كمسيرة تلميذ سوف يكون له مستقبل هائل لان يصبح استاذ للفلسفة.

لذلك فمرحلته الابتدائية كانت مرحلة متعثرة في حياته لانه على عكس أي متفوق في الدراسة لم يحصل على الشهادة الابتدائية الا وعمره اثنا عشر او ثلاثة عشر كما قال كما انه عند حصوله على هذه الشهادة لم يكمل دراسته الاعدادية كباقي من في سنه بل تعرف على عالم العمل بعد السنة الاولى من حصوله على الشهادة الابتدائية وبدأت الاسئلة والاستفسارات تراوده بان يتمم دراسته في السلك الاعدادي وبعد ان اتمم الرابعة عشر من عمره وبنصيحة من عمته قرر الدخول الى الحياة الدراسية النشيطة لكن دون ان يلج الاعدادية بل اهتم بدروسه ومراجعتها وبالاعمال اليدوية الى غاية السنة الاولى من الباكلوريا دون أي تعب او معانات وفي هذه الفترة من حياته بدأ يتعلم اللغة اللاتنية و الانجليزية بالرغم من صعوبة هذان اللغتان خاصة الثانية ليلج الى عالم الدراسة الفردية و يواكب اقرانه لكن بالرغم من ذلك كان متأخرا بالمقارنة مع باقي التلاميذ المتفوقين بمساعدة اساتذتهم ليتمم دراسته المنفردة الى غاية الجزء الاول من الباكالوريا فكان الامتحان منقسما وموكبا في دورتين اساسيتين لكن بالنسبة للكاتب فقد درسه في سنتين ليخرج من هذه المرحلة وهو مملوء بالمعلومات الواضحة لكن كان اختياره الاساسي يميل الى الفلسفة باعتبارها المادة الوحيدة التي كان غير متأخر فيها مع باقي التلاميذ الذين تعرفوا عليها في نفس الوقت الذي تعرف هو عليها.

لكن كيف انتقل الكاتب الى المرحلة الاولى من السنة الباكالوريا؟

·       لقد انتقل صاحب الكتاب في هذه المرحلة أي (المرحلة الاولى من السنة اباكالوريا) مع الممتحين الاحرار ليلج المرحلة الثانية من السنة الباكالوريا ويدخل الى مؤسسة كاثوليكية خاصة ويتمم دروسه الحقيقية و الاساسية لكن كان يعاني من عدة مشاكل في مواكبة زملائه لانه وجد صعوبة في تعويض النقص الذي عنده في المواد الدراسية الا مادة الفلسفة التي كان جد متفوق فيها.

وقد تمدرس « dagognet » في مدينة « Dijon » واتمم دراسته النهائية في ثانوية « Sain Francois de Sales » وكانت هذه المرحلة صعبة جدا فابتداء من سنة 1940 كان الاساتذة منشغلون مع كل الجماعات التربوية على الدروس العقيقة و التقليدية حيث كانت هذه الجماعات تعتبر جماعات بيداغوجية مثالية باعتبار التصور للعالم التعليمي كان جدير بالقرن 19 خاصة ما يخص تدريس الفلسفة الذي تجاوزه مع الوقت.

وقد اعتبر هذه المرحلة بالنسبة له اساسية جدا اكتشف فيها اهمية مادة الفلسفة وتعمق في كتبها بل اغرم بمواضيعها وانغمس في اغوارها باعتبارها المادة الوحيدة التي كان قد بدأها في نفس الوقت مع زملائه على عكس باقي المواد الاخرى التي كان متأخرا فيها وقد اشار انه بدأ المرحلة الاولى من السنة الباكالوريا في شهر يونيو حيث في نفس السنة لم يكن يحصل الا على المعدلات السيئة في دراسته حيث حصل على 0.5 او 1 على عشرين في اللغة اللاتينية وهذا التأخر لم يقتصر فقط على هذه المادة بل باقي المواد ايضا لكن بالرغم من ذلك نجح في "دورة شتنبر" لكن صيف هذه السنة كان مختلفا جدا حيث تعرف على استاذ ساعده كثيرا باعطاءه مجموعة من الدروس وارسل له ترجمات باللغة اللاتينية كنص « COLUMELLE » وهو لكاتب لاتيني لكنه كان دو لغة ركيكة حيث لا يعرف حتى اشرح استعمال ادوات البستنة او غير ذلك.

ولهذا فان شهر "شتنبر" انكب الكاتب حسب قوله على ترجمة « Columelle » بالرغم من انه يجهل ان ذلك من مواضيع تجارب الباكالوريا لكن المهم انه نال نقطة جيدة في هذه المادة بالرغم انه كان جد ضعيف وكذلك بالنسبة للغة الفرنسية فقد حصل على نقطة جيدة فيها ونصحوه على الانكباب على فلسفة "جون جاك روسو" لكن بالرغم من ذلك فقد بقي امتحانين كانوا صعبين جدا ليلج في النهاية مدرسة diyon  Saint Français de Sales de ويتخصص في الفلسفة لكن برنامج هذه المادة لم يكن منظما بحيث ليس أي ترابط منطقي في اجزائه اذ كانت الاسئلة التي تطرح في القسم مفرطة في التجريد و التعقيد وكانت مادة الفلسفة تدرس دون أي قيود او أي ديداكتيك، بحيث لم تكن أي قواعد منظمة لدراستها للتلاميذ وهذا ما كان يزعجه ليس لوحده بل حتى باقي زملائه كما انه لم يكن يستوعب العديد من الافكار ومدى منفعتها داخل القسم الدراسي لأنه ومع باقي زملائه كانوا بالرغم من ذلك جد متحمسين ومنبهرين للالفاظ المستعملة داخل القسم.

وقد كانت الحصص الدراسية في مادة الفلسفة جد معقدة لكن بالرغم من ذلك كان يعتبرها مهمة لانها كانت تمس مجموعة من الجوانب الاساسية في الحياة ثم ان الفلسفة لم تكن كأي مادة بالنسبة للكاتب فهو كان يحبها ويميزها عن باقي المواد ولم يكن متأخرا فيها مع باقي زملائه ولذلك كان لا يكف عن مناقشتها معهم.

·       ثم بعد ذلك انتقل الكاتب الى وصف برنامج دروس الفلسفة الذي كان يدرسه واعتبره برنامجا فارغا جدا مجردا وغير معتدل، اذ لم يتذكر منه الا شذرات قليلة وبصمات باهتة لانه كان يعالج افكار مجردة غير واقعية، و المشكلة انه كان ينظر الى هذه الافكار على انها عادية مثل مثلا "الاستدلال – الحكم – الذاكرة -  الانتباه" حتى ان الكاتب لم يكن يستوعبها او يفهمها بدقة بل انه لم يكن راضي على دراستها ولذلك تردد بين الذهاب الى حلقة دراسية وبين الذهاب الى الجامعة وقرر في الاخير الذهاب الى مؤسسة تعليمية او دراسية هيمن عليها الفكر الديني ليعيش فيها مدة سنة.

وقد تردد الكاتب كثيرا في ان يتسجل في الجامعة ليتمم دروسه في الفلسفة لكنه في الاخير قام باتمام دراسته الفلسفية فيها و ليحالفه الحظ في التفاهم مع استاذ "القسم الاول".

 وكان برنامجها الدراسي الفلسفي هائلا حيث كان الكاتب يحصل على نقط هائلة بل ومماثلة مع باقي زملائه بالرغم من ان بعض اساتذته لم يكونوا مقنعين فهم لا يركزون على فهم الطلبة بل على حشد المعارف وكانوا يشرحون الدروس بنوع من التعصب كأي اساتذة تقليديين بل كانوا يركزون على نظام دوغمائي متعصب غير قابل للتبدل فكل استاذ له افكاره التابتة و التي يدافع عنها ولا يسمح ابدا بتبديلها او تغييرها بل لا يقبل حتى المناقشة في صحتها او خطاها.

وعبر الكاتب انه لم يستطع اختيار أي مادة اخرى غير الفلسفة لانه لم يجد احسن وافضل من هذه المادة ثم لأنه لم يستطع ولوج كلية العلوم لنقصه الشديد في المواد العلمية فهو لم يكن له أي المام بمادة الرياضيات او الفزياء بل كان يحصل على نقط سيئة فيهما و العجيب انه لم يلج كلية الحقوق لكونه كان يجهل وجودها وهذا يرجع حسبه لعدم وجود شخص  يرشده في هذه الفترة فهو منحدر من محيط اجتماعي متواضع فأخاه ساعي بريد ريفي الاصل اما زوج اخته فهو مجرد مرمم طريق ولم يدرس يوما بل لم يكن يملك حتى كتابا واحدا فقط كان همه هو مشاكل الحياة وشواغلها اليومية ويعبر صاحب الكتاب بدون خجل وبكل تواضع عن وسطه الاجتماعي مبينا انه كان بالرغم من فقره يملك كرامة وعزة نفس كبيرة وانه كان نادرا ما يرافق زملاء من طبقة غنية لان اغلب زملائه كانوا ينتمون الى نسب طبقته أي الطبقة المتواضعة وكان يشاركهم حياة رائعة حيث كانوا يتبادلون الهدايا فيما بينهم ولم يتطرق معهم ابدا عن ما يتعلق بالتوجيه او عن "كلية الحقوق" فهو لم يسمع ابدا عن هذه الجامعة.

وكان الكاتب كأي مراهق في سن الثامن عشر لا يعرف الا جامعة الادب وكان كفؤا في قراءة الرسائل الكلاسيكية بالرغم من انه كان لا يتقن اللغة اليونانية و الانجليزية ويجد صعوبة كبيرة في فهمها اما بالنسبة لمادة الفلسفة فقد كان ملما بها جدا وهذا ما جعله يختار دراستها لأنها المادة الوحيد التي تمكن من مقاومتها ودراستها بكل شغف وحب بل و الصبر على تعلمها ولهذا فاختياره للتخيصص فيها كان جد موضوعي.

وقد كانت كلية الاداب هي ملجأه الوحيد فقد وجد فيها ما يريد دراسته كما انها كانت ذو نسق تعليمي جيد وكان له الحظ في تتمة دراسته فيها بمساعدة استاذ كان استتنائي بالمقارنة مع باقي الاساتذة وكذلك زملائه من الطلبة الذين كانت لهم علاقة جيدة معه فقد كان استاذ الفلسفة هذا محبوبا لدى كل الطلبة بالرغم من انه لم تكن له مكانة جيدة داخل الجامعة لانها كانت ذو نظام متشدد يطغى عليه الوضوح و الجدية.

وما ميز هذا الاستاذ النشيط الذي طالما تكلم عنه الكاتب هو كونه كان الوحيد بالنسبة له الذي يقدم دروسا حقيقية في مادة الفلسفة بالرغم من أن القسم لم يكن يضم الا عشرين طالبا وكان هذا الاستاذ له حضور قوي في قسمه وهو شخص مهم في حياة الكاتب فهو من شجعه على الفلسفة بل كان بمتابة المنقد له لان باقي الاساتذة كانوا لا يطاقون لعدة اسباب اولا: لغوصهم في التجريدية واستعمالهم لمصطلحات فلسفية مجردة دون التعميق في شرحها ثم على حسبه لهم لغة مخيفة ولا يتقنون سوى الغوص في الغموض.

وبعد ان سئل الكاتب عن نوع الفلسفة  التي درسها اجاب انه بدأ في البداية بدراسة تاريخ الفلسفة وخاصة دراسة فلسفة "ديكارت" و "أرسطو" و "شوبنهاور" و آخرون وبين انه غاص في دراستها كثيرا بكل حب  وقد كان عمله في تحليل وفهم هؤلاء الفلاسفة جد مشوق و واضح بل مضي أيضا وتعرف على حياتهم و فلسفتهم ومدى تكريسهم لحياتهم في الفلسفة ومن اجل الفلسفة فكرس هو بدوره حياته في دراسة نصوصهم خاصة نصوص "ديكارت" التي كانت بالنسبة له تجذب أي شخص الى دراستها وقد احب الكاتب "ديكارت" انطلاقا من استاذه المحبوب ومدى قوة شرحه وقدرته على الحجاج والمدافعة لشرح فكر هذا الفيلسوف .

+ وبعد نيل الكاتب لشهادة "الاجازة" في الفلسفة نصحه استاذه المحبوب بالدراسة والتسجيل في الجامعة البارسية بمدينة  «diyon » وليحمل عبئ تعليم الفلسفة لتلاميذ السنة الاولى ويقدم دروس خاصة لتلاميذ السنة الرابعة و الخامسة و المهيئين للمباريات و الامتحانات وبعد ذلك اتمم الكاتب نصائح استاذه واتجه الى باريس للتهيئ لمباراة في التبريز و اتمام دراسته لمؤرخ في الفلسفة مشهور يدعى « Martial Gueroult » وكذلك دراسة كل اعمال "ديكارت" وهذا المؤرخ كان استاذ للفلسفة هائلا جدا حيث كان يعطي لتلامذته الوقت الكافي في تحليل النصوص الفلسفية اثناء الامتحان ويصل في بعض الاحيان من 4 حتى 5 ساعات وقد سبق للكاتب ان درس عنده وكان يمنحه مجموعة من النصوص الفلسفية "لكانط" و ديكارت لتفسيرها ومعالجتها وقد كانت تصل في بعض المرات الى سبعين او ثمانين نص لمعالجة مواضيعها فقد كان كاتبا خدوما له.

ويتدكر الكاتب ذكرياته الدراسية في مدينة «diyon » ويتذكر معها استاذه المحبوب وخدماته له حيث كان الكاتب طالبا مجتهدا لا تقل معدلاته في ابحاثه الفلسفية عن 19 على 20 وهذا راجع بالنسبة له لحبه  للفلسفة ولتوا ضع استاذه معه بالرغم من انه كان صارما ودقيقا أحيانا لكن هذه الصرامة هي ما شجعت الكاتب على الاستمرار وحب الفلسفة كما ان هذا المدرس كان دقيقا في اوقاته. اما درسه في القسم فقد كان يتميز بالتراتبية و الاتساق طوال السنة الدراسية حيث لم يكن يهتم بالندوات .او اللقاءات الفارغة. اما داخل حصة الدرس فقد كان صارما لا يوقفه احد .

وهكذا فقد كان المام الكاتب الشديد بالفلسفة لم يأتي من فراغ و انما هو نتيجة لحبه الشديد لهذه المادة وتشجيع اساتذته له ولولا ذلك لما وصل الكاتب لما هو الآن عليه.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال