في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

تلخيص كتاب  "المعرفة والحجاج "لبيير بلاكبورن

عبد الناجي بنكيط

 

يعد هذا الكتاب بمثابة مدخل إلى الابستومولوجيا، كفرع من فروع الفلسفة يهتم بالدراسة النقدية للمعرفة وبالتحديد الاهتمام بالمصادر التي تنبع منها هذه المعرفة، حيث يمكن تحديد هذه المصادر بالمعنى العام فيما يطلق عليه « les croyances » كما يهتم هذا الفرع الفلسفي أيضا بالوسائل والمبادئ التي تجعل من آرائنا مبررة عقليا، بما أن تناول موضوع "الآراء" أخذ مساحة مهمة من هذا المؤلف، لابد لنا أن نخصص حيزا للحديث عن مكانة الآراء في حياتنا.

إن جميع الأفراد يتصرفون وفق الآراء التي تقود أفعالهم وتوجههم في مسار حياتهم، فالآراء لها دور كبير في إدارة حياة الأفراد، بل أكثر من ذلك هي ما يجعل من الأفراد أفرادا، فمبحه فرد لفرد تتحدد انطلاقا من رأيي هذين الفردين، أحيانا يتخذ الناس موقفا معيينا منا كأفراد بسبب آرائنا الخاصة، لذلك فنحن دائما نربط الفرد بآرائه التي من خلالها نحكم عليه، إن آراءنا تؤثر تأثيرا كبيرا على انفعالاتنا وأحاسيسنا. هكذا فاعتقاد شخص أن شركته ستفلس أو أنه سيجري عملية جراحية معقدة يعتقد أن يكون لها مضاعفات سلبية على صحته، إن هذه الأمثلة كافية لأن تكون مصادر هيام « d’affolement »  للشخص الذي يواجهها.

أحيانا يكون حتى للآراء الغير المسوغة والمبررة عقليا تأثير على أحاسيسنا فتجعل منا أشخاصا تعساء، فمثلا إذا اعتقدنا أن أستاذا في الفصل، أو صديقا في العمل يجد طباعنا سمجة « antipathique » تثير النفور، هذا يجعلنا في وضع غير مريح، هكذا إذن تتبين المكانة المركزية التي تحتلها الآراء (سواء منها المسوغة عقليا أم الغير المسوغة) في حياتنا، إنها تقود أفعالنا وسلوكيتنا فمن خلال "الآراء" يتم تعريفنا في عيون الآخرين وفي عيوننا ذاتها.

من أين تأتي الآراء إذن؟ إنها تصدر في قسم منها من الوسط الاجتماعي الثقافي والعائلي، لكن تصدر أيضا انطلاقا من نشاطنا الفكري الخاص الذي نمارسه في استقلال تام عن العالم الخارجي من حولنا، ابتداء من سن معين نشرع في عدم قبول كل الأفكار التي تروج في وسطنا الاجتماعي، الثقافي والعائلي، إذا كانت آرائنا تصدر في قسم منها من الخارج، فهذا لا يعني أننا كأفراد مجرد مستقبلين سلبيين وغير فعاليين تجاه الآراء التي تحوم من حولنا، فنحن لنا القدرة أيضا على الرفض أو القبول لبعض الآراء بل أكثر من ذلك نستطيع أن ننتج آراء جديدة من عندنا.

إذا كنا قد أكدنا فيما سبق أننا نحكم على الأفراد من خلال آرائهم. فنحن نحكم عليهم أيضا انطلاقا من الطريقة التي بواسطتها يتبنون، يبررون، ويدافعون عن آرائهم.

في هذا الإطار هناك بعض الأشخاص يستخدمون تفكيرهم بشكل جيد، ينتقدون، منفتحون بالمقارنة مع آخرين خصوصا عندما تطرح آرائهم في طاولة المناقشة والمسألة. في كل يوم يتبادر إلى ذهن المرء أن يتساءل عن قيمة بعض الأفكار والآراء.

في هذا الكتاب تم فحص الكيفية التي من خلالها يجيب الأفراد عن مثل هذا النوع من التساؤلات، كما يوضح المؤلف في هذا الكتاب العوامل المتعددة التي تؤثر على آراء الناس.

أحيانا يقع البشر في الخطأ، والمعرفة التاريخية تبين أن الكائنات البشرية عبر العصور الماضية ظلت طريقها في الإجابة عن العديد من الأسئلة. إننا نضل طريقنا أحيانا في اختيار آرائنا. في هذا السياق هل نحن قادرون على تحسين الطرق والمناهج التي يمكنها أن تخدمنا في تحديد الآراء التي يجب علينا تبنيها؟ يجيب المؤلف بالإيجاب، فيستطرد في فحص العديد من المبادئ التي تبرر موقف فكري ونقدي يواجه المشكلات التي تكون من إعداد آرائنا الخاصة. كما يهدف الكاتب أيضا خلال مؤلفه هذا إلى فهم عميق لعملية اشتغال الفكر البشري إن تحليل كيفية تسويغ وتبرير الآراء يمكن على الأقل من الإمساك بمصدر و منبع آراء الآخر ثم بأصل بعض الخلافات التي تنشأ بين الأفراد، كما يمكن التحليل أيضا من فهم الكيفية التي تتكون بها الآراء العلمية، إن مثل هذا النوع من الآراء (أي الآراء العلمية) تعتمد على أعمال علمية كذلك لكن المؤسف في الأمر هو أن هذه الآراء تقدم في الغالب مجموعة من الأفكار تصدر من حيث لا نعلم من أين، ولا كيف تصدر، يعتبرها الطالب على العموم صحيحة لا تقبل الخطأ وتطلب منه دائما أن يحفظها في ذاكرته في أفق امتحانه فيها، في هذا السياق برهنت العديد من الدراسات أنه بعد إجراء الامتحان تكون هذه الأفكار قد نسيت في الغالب الأعم.

هناك العديد من يعتبر أن من بين أبرز المشاكل التي يعاني منها التعليم التقليدي للعلوم على مستوى التعليم الثانوي يتجسد في الممارسة التي تعتمد على عدم تقديم سوى الخلاصات العامة التي يتوصل إليها البحث العلمي عوض تقديم المسار والمنهج الذي يقود إلى هذه النتائج والخلاصات، في العلم، يجب تعلم الطريقة التي بواسطتها يلعب الباحثون لعبتهم هذه التي تمارس بالاستعانة والاعتماد على الأفكار على الفرضيات والنظريات ثم على الحجج. في نفس السياق لنفترض أنك التقيت بشخص ما حفظ عن ظهر قلب نتائج جميع مباريات فريق للكرة الطائرة وذلك خلال سنة من اللعب،  هذا مع العلم أن هذا الشخص لا يعرف قواعد هذه الرياضة، هل ستصدقون بأن هذا الشخص يعرف رياضة الكرة الطائرة؟ بالتأكيد سيكون جوابكم هو أن هذا الشخص لا يعرف هذه الرياضة. نفس الأمر ينطبق على العلم، فمعرفة بعض الخلاصات ونتائج العلم دون معرفة الطرق والمسارات التي قادت لهذه النتائج، ودون معرفة الأسباب التي دعمت هذه النتائج أو الأنماط التحليلية المستخدمة في العلم من أجل الدفاع عن فكرة ما لا يعني ذلك معرفة العلم، خلال هذا المؤلف يحاول الكاتب أن يقدم العديد من الاستشهادات والتوضيحات والأمثلة. من أجل فهم عميق لخصائص اشتغال الفكر البشري ومن أجل فهم الكيفية التي تبنى بها آرائنا والكيفية التي يجب أن تبنى بها اعتمادا في ذلك على العديد من المحطات في تاريخ الأفكار مما جعل هذا الكتاب مفيدا للذين يريدون تنمية روح النقد لديهم.

إن هدف هذا الكتاب هو أن يغير العلاقة التي تربط الأفراد بالمعلومات التي تحوم في وسطهم الاجتماعي والثقافي وأن يطور لديهم الاستراتيجيات الفكرية ثم يضع عليهم الأسئلة الدقيقة عندما يرتادون تجربة التفكير في أرائهم وتلك الآراء التي تحوم بهم في محيطهم، إن تنمية روح النقد تعد ضرورة اجتماعية أكثر منها ضرورة فردية، لذلك فهي من الشروط الأساسية لتحقيق الحرية.

 

×   بنية الكتاب : 

يحتوي هذا الكتاب على ثلاث أقسام أساسية، القسم الأول يمتد من الفصل الأول إلى الفصل الحادي عشر، والمعنون "بعالم الآراء" « Univers des croyances »  يعد هذا القسم بمثابة عرض مفصل حول أصل ومصدر الآراء والعثرات التي تقف أمام البحث عن آراء مبررة عقليا، كما يعرض هذا القسم المبادئ التي يجب إتباعها لتحقيق هذا الهدف الأخير، نجد في هذا القسم مجموعة من المصطلحات الأساسية والعديد من الأدوات المفاهيمية، والتي يعاد استخدامها في القسمين المواليين، الأمثلة الموظفة في هذا القسم لها ارتباط بحقب تاريخية وسياقات متنوعة.

في القسم الثاني والذي يمتد من الفصل الحادي عشر إلى الثالث عشر "داروين ونظريته التطبيقية" كونا مجالا تطبيقيا للمصطلحات المقدمة سالفا في القسم الأول وتوضيحا للأطروحات المركزية التي تم الدفاع عنها، فتوظيف داروين ونظريته من قبل المؤلف له هدف تحقيق فهم للكيفية التي يؤثر الناس بآرائهم على بعضهم البعض، التعريف بداروين وبنظريته يمكن من النظر من داخل سيرة اتبعها باحث مهم، ويمكن معرفة الكيفية التي تبنى بها نظرية علمية.

في القسم الثالث وظف المؤلف مجموعة من التوضيحات العلمية التي تجمع مجموعة من الحجج والأفكار التي أنتجها العديد من الباحثين الذين لهم حضور بارز في تاريخ العلوم، في هذا القسم وظف المؤلف مجموعة من النصوص الغنية التي تسهم في اكتشاف تنوع وغنى المسارات الفكرية لبعض الباحثين من أمثال "باري" « pare ». كليلي، كينز، وفون فريتش، في آخر هذا الكتاب ذيل المؤلف عمله هذا بسبع ملاحق تساعد على تحليل محتوى الكتاب كما تفتح عين القارئ على مجموعة من المعارف لها علاقة بموضوع هذا الكتاب.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال