في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

تلخيص كتاب "التربية والحرية من أجل رؤية فلسفية للفعل البيداغوجي"  لمحمد بوبكري

ربيعة الشبة

        

 ينطلق صاحب النص في مؤلفه هذا "التربية والحرية من أجل رؤية فلسفية للفعل البيداغوجي" من إشكالية مفادها ما يلي: هل التعليم مرتبط بالتعلم؟ وهل فعل التعلم حاصل من مبدأ التعليم؟ وهل المؤسسة التعليمية تقبل بغير الوضعية التي تبنيها هي في التعلم؟ بمعنى هل المؤسسة التعليمية تقبل بالقدرات والمهارات التي يكتسبها الفرد خارج المطلوب الدراسي التي تبرمجه هي؟ وهل التعلق رديف للتعليم؟

         لمعالجة هذا الإشكال، ينطلق صاحب النص من تقديم مفهوم الحرية في مجال التربية من خلال قراءات في نصوص فلسفية أساسية، محترما التسلسل التاريخي الفلسفي في النظر لهذا الإشكال، فبدأ ب "سقراط" ومحاوراته في التعلم وانتهى ب "دريدا". فيلسوف التفكيك منتهيا بخلاصة محتواها العلاقة الوطيدة بين التربية والتعليم.

1-    سقراط: "المحاورة والتعلم"

يظهر سقراط من خلال المحاورات الأفلاطونية رافضا علاقة الأستاذ بالمريد وتدريس أي مذهب جاهز، فالتعلم الحقيق لا يتأتى إلا من خلال الحوار، وليس أي نوع من الحوار بل الحوار البناء الذي ينتهي معه صاحبه إلى استنباط الحقيقة وإدراكها، ومن هنا حقر سقراط من فعل "الكتابة" واعتبر حكمتها زائفة لأنها لا تمنح صاحبها أن يقوم بحركة الارتداد الداخلي، والخطاب المكتوب مع سقراط قد يكون في بعض الأحيان ........عن الحقيقة، لكن حقيقته تائهة وشاردة إذ هي في حاجة إلى من يوجهها، وهذا التوجيه لا يتم إلا بالحوار، ومنه فإننا في حاجة إلى تدريسها، وكذلك معرفة كيفية هذا التدريس، بالنسبة لسقراط التعلم لا يتم إلا بالحوار، هذا الحوار لا يبنى في علاقة الأستاذ بالمريد بل يبنى في علاقة متساوية بين الطرفين حيث يطرح إشكال ما ونبدأ في معالجته معا حتى ننتهي إلى معرفة بصدد هذا السؤال، فالتلميذ يكتشف بذاته معرفة كان يعتقد أنه يجهلها ولهذا فإن التعلم ليس فقط إعادة التذكر، وإنما هو فن توليد المعرفة التي يحملها التلميذ لكنه نسيها، ومن هنا يتحقق شعار سقراط الأبدي "اعرف نفسك بنفسك".

2-    روسو: شعرية البيداغوجيا

يرتبط مفهوم التربية عند روسو ارتباطا وثيقا بالمفهوم العام الذي طوره للحياة وبشر به، فبيداغوجيا روسو في التربية تريد لنفسها أن تكون بيداغوجيا الإنسان، فروسو يسعى بواسطة التربية إلى أن يعيد إقامة الاستقلال الذي كان الإنسان يتمتع به قبل تقسيم العمل وميلاد الإنسان. إلا أن هذه الإقامة تبقى طوباوية ومثالية جدا، ليبني لنا سيرورة الكائن البشري تتحدد من خلاله تربيته في كل مرحلة من مراحل تطور هذه السيرورة. ليمر الإنسان من ثلاث حالات "الحالة الطبيعية، حالة التوحش، حالة التمدن" وهذه الحالات الثلاث هي ما يقدم روسو مثالا لنشأة وتطور الفرد.

3-    كانط: التربية والحرية

تنطلق نظرية كانط في التربية من اعتبار مبدأ اللامساواة في التعلم شيء ضروري، فالعلاقات بين المدرس والتلميذ هي علاقات غير متناظرة. وذلك لأن المدرس والتلميذ هي علاقات غير متناظرة. وذلك لأن المدرس هو مدرس لأنه أقدر من تلميذه والتلميذ تلميذ لأنه أقل من مدرسه، وعلى الرغم من اعتراف كانط. على التعارض القائم بين السلطة والحرية، فإنه في مجال التربية يتنازل على ذلك. حيث يعتبر أن الضبط الذي يتولد عنه الخضوع وبذل المجهود هو النواة المركزية للتربية، فهدف التربية بواسطة الإكراه هو تعليم الطفل كيف يحصل على استقلاله وكيف يستعمل حريته ويعيش داخل المجتمع ومنه تعتبر هذه السلطة تحررية. كيف يمكن التوفيق بين الخضوع للإلزام القانوني وبين ........استعمال الحرية؟ يجب علي أن أُعَوّدَ تلميذي على تقبل إلزام يقيد الحرية، وفي الآن نفسه، يجب عليّ أن أرشده إلى استعماله الجيد لحريته؟ كيف يتم ذلك؟

         من المنظور التجريبي للتربية فإن هذا المشكل لا يعدو أن يكون مشكلا أخلاقي، فالتربية هي تهذيب أخلاقي، وهذا التهذيب يتم من خلاله قواعد، ويفهم من القاعدة حسب كانط مبدأ الإرادة الذاتي، أما المبدأ الموضوعي فهو القانون العملي والأخلاقية هي طاعة القانون، ليس بدافع الإكراه أو الخضوع، وليس لكون القانون شيئا خارج عن ذاتنا. ولكن لكون الخضوع للقانون يكون سبب في نظامنا وبالتالي شرط لسعادتنا.

 

4-    نيتشه: التربية خدعة

تتميز فلسفة نيتشه عموما بأنها محاولة لإعادة تقييم كل القيم وقلبها وهذا الأمر ينطبق بالمثل على مجال التربية، فأضحى بناءه للتربية قائما على أساس نقده للتربية الحديثة، فيعتبر التربية في الأزمنة الحديثة أنها أضحت جهازا وآلية للتلاعب والتناور، تعمل على تشويش وعي الإنسان وإلغاء ذاته، وبالتالي إخضاعه للسلطة المطلقة للدولة، ومن هنا فإن نيتشه يذهب إلى اعتبار التربية في الأزمنة الحديثة ليست وسيلة للمناورة ولتمرير .........إيديولوجية، بل هي المناورة نفسها وهي تستعجل بانتحار مجتمعي مريع...

          في نظر نيتشه على من يطلب الحكمة ألا يتعلم محبة أعدائه فحسب، بل عليه أيضا أن يتعلم كيف يبغضهم، ولن يعترف التلميذ اعترافا تاما بفضل أستاذه إن هو بقي تلميذا له إلى الأبد، هذا التمرد مهم لزرادشت ومريده، إذ المريد بدوره مجبر على أن يتعلم كيف يتخذ مواقف لوحده من أجل اكتشاف ذاته. لهذا عليه أن يتمرد على المربي. ومن هنا يتبدى جوهر التربية عند نيتشه، إنه يكمن في التوتر الذي بواسطته يكتشف كل من المُتَعَلِّم والمتعلَّم ذواتهم.

5-    العلاقات التربوية عند تولستوي:

لم يكن تولستوي tolstoi متخصصا في البيداغوجيا، لكنه كان منشغلا بالأسئلة التربوية في حياته. وقد كان منشغلا بالأسئلة التربوية في حياته. وقد كان متأثرا إلى حد يعيد بفكر روسو. ويعتبر أن التعلم يحترم حركية الطفل في التفكير وينادي على إقامة علاقة بين المدرس والتلميذ خالية من أي أثر للتحكم والإكراه، ويقدم للطفل مكانة متميزة في العملية التعليمية حيث دعا إلى عدم التعامل معه كراشد غير مكتمل، يتحكم في سلوكه بشكل كامل.

6-    ميشيل فوكو: ما حقيقة التربية

إن قراءة الخطاب بالنسبة لفوكو هي قراءة لما هو مستتر، خفي، وهذا المستتر والخفي لا يوجد خارج هذا الخطاب بل محايث له ومتضمن فيه، ومن هنا يعتبر أن التربية تحصل في طياتها خطابات فالمربون يتكلمون بصفتهم مربين بعد الحصول على كفاءة في خطاباتهم المهنية، وبعد الحصول على شهادة يسمح للفرد في هذا الإطار أن يتكلم باسم السلطة حول التربية، بل يطلب منه ذلك ويتلقى عنه تعويض، ومع هذا فليست لهذا النوع من المتكلمين باسمها، فالمربون في نظر فوكو يعتقدون أنهم يتحكمون فيما يقولونه وما يفعلونه وأن الممارسات الخطابية التي يقومون بها ترتكز أساسا على عبارات حقيقية، لكن إذا كانت الحقيقة الخطابية، وكانت الخطابات القائمة في التاريخ، فلا يمكن قول الحقيقة في غياب السلطة فمن هنا ينبغي فهم التربية كممارسة للسلطة، تصبح جهازا لصناعة الأفراد الذين يقفون ضد أنفسهم، كما أنها تسجنه في نظام خطابي مؤسساتي، فتحوله إلى جسد منتج ومستعبد، ولن يكون فاعلا إلا إذا .......كذلك، ولن تصبح له قضايا تخصه كذات بل يبقى رهين الممارسة السلطوية.

         وبعد أن يقدم صاحب النص هذه المواقف الفلسفية حول موضوعة التربية وعلاقتها بالحرية عموما يذهب إلى إقامة لحظة تأملية مع البرنامج الدراسي والعلاقات التربوية، فانتهى إلى أن الواقع التربوي مختلف ومتعدد مذهبي ومنهجي ... والبيداغوجيا الموضوعية تعمل على اختزال تعدده وتنوعه والواقع التربوي لا يسمح بهذا الاختزال. إن البيداغوجية الموضوعية تنطوي على إرادة النجاح، وهذه الأخيرة تنطوي على رغبة، فالتربية فن وليست بممارسة نظرية جافة، فينتهي بنا إلى إقامة تحليل موجز حول النظرية والممارسة في التربية والتعليم ليخلص إلى أن المسافة التي تفصل بين النظرية والممارسة في التربية والتعليم تظل قائمة، فالمدرسون يؤمنون بوجود لغتين: لغة الواقع، التي لا يجسرون على إثارتها إلا مع أقرب الزملاء، ولغة المثل الأعلى الموجهة إلى المفتشين ومن هم أعلى منهم مرتبة في السلم الإداري.

         ونهاية لهذا المؤلف يضع صاحب النص موعظة من أجل ديمقراطية معرفية ومدرسة مواطنة فإنه لا يجب أن يفهم الحوار التربوي السليم باعتباره تقنية يمكننا استعمالها للحصول على بعض النتائج ... وإنما الحوار التربوي لحظة للتأمل في وضعنا، وفي فهم عالمنا أكثر.    

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

---

عودة إلى صفحة الكتب

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال