تقديم
وضعية- مشكلة
أنطلق من هذه الوضعية-المشكلة
الآتية: ذات مرة ،بينما كنت بمنزل أحد أصدقائي ، منذ ثلاثين سنة خلت، وكان
الرجل أستاذا لعلم النفس التربوي، وقبل ذلك مدرسا للفلسفة،جاء إبنه الصغير
البالغ من العمر حوالي ثمان سنوات،قائلا لأبيه:قال لنا المعلم يومه "يد
الله مع الجماعة"،هل الله له يد مثلنا؟على إثر ذلك،طلب الأب من إبنه
المناداة على أخته، وهي تكبره بثلاث سنوات أو أربع فلما حضرت،طلب الأب من
الجميع وضع الأيادي واحدة فوق الأخرى، وبعد ذلك سأل ابنه عما إذا كان يرى
يد الله،أجاب الإبن بالنفي،فقال الأب:إذن الله ليس له يد،معتقدا أنه أنهى
الموضوع،لكن إبنه بادره مجددا:أين الله؟.
هل ينبغي أن نجعل
الأطفال يتفلسفون؟
بالنسبة إلى البعض فإن السؤال
غير وارد ولا يطرح على الاطلاق مادام الطفل يتفلسف بصفة عفوية.وإذن لا
يتعلق الأمر هنا إلا بأن نترك الطفل حرا في أن يكتم أفكاره الفلسفية ،
ونساعده بعد ذلك على تدعيمها.
في رواية :"خفة الوجود غير
القابلة للتحمل"لميلان كونديرا، نجد شخصية تيريزا ، وهي قروية معذبة بسبب
عدم وفاء طوماس،تقف أمام المرآة وهي تنظر إلى نفسها، تتساءل عما سيحدث لها
إذا اصبح انفها يزداد طولا بمقدار ملمتر في كل يوم، في حدود كم من الوقت
سيكون وجهها لا يعرف؟ ويفتح الروائي قوسا على إثر ذلك مسجلا"إنها دائما نفس
الأسئلة التي تدور في ذهن تيريزا منذ الطفولة،لأن الأسئلة الصعبة هي دائما
تلك التي يمكن أن يطرحها طفل ما "،فهي بالتدقيق الأسئلة التي لا وجود
لأجوبة عنها تضع نهاية للإمكانات البشرية وترسم حدودا لوجودنا.وفي هذا
المقطع من الرواية ،كلمة الفلسفة لا وجود لها لكنها مفكر فيها بقوة
.
ينحو كارل ياسبيرز في كتابه
"مدخل إلى الفلسفة" في هذا الاتجاه، لكونه يؤول بعض الأسئلة الطفولية
باعتبارها أصل الفلسفة نفسها.وبقبولنا أن فكر الأطفال مصدر السؤال الفلسفي،
ولم لا، يمكن أن نطرح قضية
هل من رأي ياسبيرز أن ندرس
الفلسفة للأطفال؟ لا نجد أي جواب لهذا السؤال في هذا "المدخل"،
وعلى كل حال ،فإن "معنى الفلسفة ينشأ قبل كل علم ،حيث يستيقظ البشر"،وقد
اعتمد ياسبيرز على أربعة أمثلة حول : دوام الأنا،قانون الكون،الإيمان
والعلم و الوجود والزمن .
يقرر ياسبيرز بأن الأطفال "عادة
ما يكون لديهم نوع من العبقريةالتي تضيع عندما يصبحون كبارا"، فكل شيء يحدث
كما لو أننا مع مرور السنوات ندخل إلى سجن المواضعات ،الآراء الشائعة ،التمثلات
والأحكام المسبقة، فاقدين ، في الوقت نفسه تلقائية الطفل المتقبل لكل ما
تحمله إليه الحياة التي تتجدد بالنسبة إليه في كل لحظة، فهو "يحس ،يرى،
يتساءل، وبعد هذا يهرب منه كل ذلك"عنده نجد تلقائية الفلسفة ،إذا جاز
القول، لكن مع القبول المباشر لعدم استقرار السؤال،
وفي
فقرة موالية،يتحدث ياسبيرز عن المرضى العقليين ،كيف لا وهو القادم إلى
الفلسفة من بوابة الطب النفسي، حيث قال:"حينما يحل الحمق يكون عندنا انطباع
رغما عنا، (نتخيل من خلاله) أن شراعا ما يتمزق، وهو ذلك الذي تحته نكمل
حياتنا العادية"، على حين أن "الأفكار الفلسفية الكبرى نتاج عدد قليل من
العقول العظيمة ذات طراوة واستقلالية متميزتين..." وليس للأطفال أو الحمقى
كيف يقرأ ياسبيرز
وضعية الفلسفة؟
حسب ياسبيرز تتحدد "الوضعية
الفلسفية الراهنة(1935) بهيمنة فيلسوفين كبيرين،،لم يسبق أن أثارا انتباها
كبيرا في حياتهما، وبالتالي ظلا طويلا خلف محور اهتمام الفلاسفة، وهما
نيتشه وكيركيغارد، غير أن فلسفتيهما
اكتسحتا رويدا رويدا الساحة الفكرية،ما دام أن الفلاسفة
الآخرين الذين ساروا على طريق هيغل، أصبحت أفكارهم أقل انتشارا."يتعلق
الأمر بالوعي بهذين الحدثين الفلسفيين اللذين شكلهما نيتشه وكيركيغارد، دون
الفصل بينهما إذا لا يأخذ أحدهما دلالته كاملة إلا من خلال علاقتهما ببعض
وتعارض أحدهما مع الآخر.بل ينبغي الذهاب بعيدا بتبني صيغة ياسبيرز
المستعارة من كيركيغارد،أي أن نكررهما في داخل أنفسنا، وبلغة أخرى،أن
نعيشهما ثانية،أن نعيد التفكير فيهما وأن نجربهما من جديد..
يقول ياسبيرز في كتابه حول
"الحقيقة" الصادر عام 1917 بأن نيتشه وكيركيغارد ظهرا في وقت كانت
الإنسانية فيه تشهد تحولا في تاريخها، فهما كانا واعيين بجمالية الحقبة
التي ستأتي. وبالفعل فإننا ، سواء بالنسبة لياسبيرز أو بالنسبة لهيدغر
،أمام نهاية الفلسفة الغربية العقلانية المنظور إليها بوصفها موضوعية
ومطلقة، على حين أن السمة البارزة للتاريخ الغربي هي أنه يعتبر دائما
تاريخا للتوترات
هذه التوترات عبرت عن نفسها من
خلال شخصيات كبيرة،وهي شخصيات استثنائية،ويصدق هذا الكلام على نيتشه
وكيركيغارد بامتياز، وهو" استثناء يأخذ صورة فرد في عزلة لا يستند إلا إلى
نفسه،يحتج لصالح التعالي ضد الوفاء لكونية مقطوعة عن حركة التجاوز التي
حملتها معها."كما قال هنري نييل في الصفحات التي خصصها لكتاب ياسبيرز حول
الحقيقة.ومهمتنا نحن الذين لا نشكل استثناء هي أن نتفلسف في ضوء الاستثناء،
لكن أمام هذه الاستثناءات لن تكون وضعيتنا بسيطة"فنحن لا نستطيع أن نراها"
لأنها ليست حاضرة بصورة موضوعية.إذا انطلقنا من
نيتشه مثلا ،سنرى بأننا دائما بالنسبة إليه على مسافة معينة حياله.
وبالتالي فنحن نسير من شعور بالتبجيل والرعب أمام ما هو جوهري في تضحيته
إلى إحساس بالشفقة أمام هذا الرجل المريض، وأحيانا نشعر بالغضب من العبث
الذي تميز به.
يستطرد هنري نييل قائلا:رغم
المظاهر ،فإن الاستثناء لا يبحث عن نفسه بنفسه،إنه يتابع الكوني"وهذا هو
التراجيدي في نيتشه"، رغم امتداد وقوة تأثيره، يبدو نيتشه مختبئا. هذا
الوحيد في عزلته، الذي كان مشتاقا إلى التواصل، يظل بالنسبة إلينا
لغزا.إننا نعلم على الأقل بأنه كان إنسانا يأخذ مكانه على حدود الفكر، في
وضعية من بين الوضعيات الحدودية التي بفضلها ينفتح التعالي بالنسبة إلينا.،
فهو كان إنسانا تراجيديا، ومن وجهة نظر ياسبيرز، فإن ما هو تراجيدي يعد
اتجاها لبلوغ ما يتجاوزنا.
يبدو من المناسب الرجوع من جديد
إلى المقارنة بين نيتشه وكيركيغارد ، مادام أن التأمل في فلسفة أحدهما ،
كما قال ياسبيرز، لا يجب أن يتم في معزل عن التأمل في فلسفة الآخر.
كلاهما نشأ في المسيحية،كلاهما
كانت له حساسية حيال شوبنهاور، كلاهما فكر طويلا في حالة سقراط، بطريقة
مختلفة:ذلك أن سقراط معلم كبير حسب كيركيغارد، والعدو اللدود بالنسبة
لنيتشه.لكن في هذه اللاصداقة من جهة نيتشه إزاء سقراط، هناك، في الوقت
نفسه، احترام لسقراط، وهذه ملاحظة عامة يسجلها ياسبيرز:ذلك أن أولئك الذين
عارضهم نيتشه هم في الآن ذاته الذين تشده إليهم روابط قوية. وقد أظهر
ياسبيرز في كتابه حول" نيتشه والمسيحية" أن الشيء نفسه يصدق على الروابط
بين نيتشه والدين المسيحي،بحكم أن المسيحية أفرغت من محتواها حسب نيتشه.
تتعارض فلسفتا نيتشه وكيركيغارد
مع الفكر العقلاني الخالص،فقد عادتا فكر هيغل . كلتاهما وضعت العقل موضع
السؤال من وجهة نظر "عمق الوجود" كما كتب ياسبيرز، كلتاهما دشنت نمطا جديدا
للتفلسف. فنيتشه
وكيركيغارد كلاهما كان شاعرا ومفكرا في الوقت نفسه، وقد كانا عبقريين في
الاستطيقا، كما أنهما نبيان ونوعا ما قديسان.هذا الفرد الذي يريدان تطويره
غامض، ورغم هذا كله فاحدهما كان مسيحيا والآخر ضد-مسيحي.
يمكن القول بأنهما كانا ناقدين لما سماه
كيركيغارد بالتمسح بوصفه يتعارض مع المسيحية
خاتمة.
يتعين علينا أن نشير هنا إلى
أهمية الدور الذي يقوم به الآباء في تنمية مهارات أبنائهم الفكرية.ذلك أن
الأطفال الذين اتخذ
ياسبيرز من أسئلتهم نماذج للأسئلة الفلسفية كلهم لهم من بين أقاربهم أحدا
ما يشتغل مهنيا بالفلسفة ،أبا كان أو عما...إلخ،وحتى في الوضعية-المشكلة
التي انطلقت منها ، يجب الانتباه إلى أن أب الطفل المتفلسف كان أستاذا
للفلسفة، وهكذا، ليس من البديهي أن يكون كل الأطفال يتفلسفون،فهذه الفكرة
خاطئة ،إنما يتفلسف من بينهم من يجد الجو العائلي الذي يسمح بالتفلسف
ويساعد عليه .
نحن لا نستطيع أن نمنع الأطفال
من طرح الأسئلة،هذا أمر مفهوم، كما أننا لا نرغب في أن نمنعهم أو أن
نتجاهلهم: كأن نقول للطفل"أنت صغير"،"
نقول لهم سترون حينما تكبرون".وإنما علينا أن نفهمهم لاأن فلسفيا" وهذا
ليس شيئا مضمونا" وحسب
صيغة ميشيل طوزي.
|