ترجع الوجودية من حيث ينبوعها الأول إلى الإنجيل، لكونه يحتوي على نظرة قاتمة
حول الحياة الإنسانية. وبصفة عامة فما حمله الإنجيل إلى العالم ليس عبارة عن
تأملات مجردة لنسق منطقي، وإنما أتى بمذهب للحياة، قائم على شهادة من رأى الله،
كليم الله.بحيث توجد في الكتاب المقدس" روح" يمكن تسميتها "وجودية" بالمعنى
الواسع للكلمة، لكنها حقيقية، وهي تهيمن على الفكر المسيحي برمته.ومن بين
الدكاترة المسيحيين العظماء هناك القديس أوغسطين الذي تنطوي فلسفته على أبرز
سمات الوجودية.ألم يكتب "الاعترافات"، ألم يصغ موضوع القلق الإنساني كقلب بلا
راحةIrrequietum
cor ؟
ويعد باسكال هو مؤسس الوجودية الحديثة، لأنه وضع في مركز انشغالاته الإنسان
كفرد ملموس، موجود، ويصف بطريقة تنفذ إلى المعاناة في شرطها الحاضر، أي "بؤس
الإنسان بدون إله".ومع ذلك، لا زلنا هنا بعيدين كل البعد عن المدرسة الوجودية
بحصر المعنى، فهي ذات أصل مرتبط بالقرن العشرين، حيث تأسست كرد فعل ضد
العقلانية والمثالية المطلقة لهيغل.
1-نشأة الوجودية:
أ-كيركيغارد :
كيركيغارد هو أب المدرسة الوجودية، والمربي هو هوسيرل.فقد نشأت الوجودية
المعاصرة عن المواجهة بين "مذهب الوجود" كما وضعه كيركيغارد، و"الفينومينولوجيا"
كما تصورها هوسيرل. وبلغة أخرى أيضا، فقد منحها الأول العمق والأفكار المرشدة،
والثاني المنهج أو الصورة الفلسفية.وكيركيغارد ليس فيلسوفا فحسب، شخصيته معقدة
للغاية لدرجة أنه عصي على التصنيف في أي إطار قد يرغب المرء أن يحصره فيه، إنه
كاتب وعالم نفس وعالم أخلاقي وفيلسوف وعالم لاهوت وصوفي على حدٍ سواء. إنه ،
على سبيل المثال، مفكر بروتستانتي بطريقة باسكال، ثرثار بشكل رهيب، لكن عمله
يوصف بالنير والحدس اللامع.وثمة ثلاث سمات فقط لفكره: أولاً ، النقد الحاد
لهيغل، وبشكل أعم للعقل، لأن هيجل يجسد العقل بعينه، إذا جاز التعبير.لكن
بالنسبة لكيركجارد، فإن النظام الهيغلي عبث مطلق: إنه قصر رائع للأفكار، لكن
بدون أن تكون له أية قيمة حقيقية.بحيث يريد هيجل اختزال كل شيء في المحايثة،
التوفيق، والتوحيد بين كل الأشياء ضمن "المعرفة المطلقة". لكن، كما يقول
كيركيغارد، على وجه التحديد، "الوجود هو ما يفصل، ما يجعل الأشياء خارجية عن
بعضها البعض، كل منها مغلق داخل فرديته، وما يضعها "في ذاتها" خارج الفكر.إذن
لا يمكن أن يكون هناك نظام للوجود.ومن
ناحية أخرى، يريد هيجل أن يفهم، ويفكر في الكون.لكن الفكر المجرد، بحكم تعريفه،
بطبيعته، مستخلص من الوجود ومن كل الخصائص الملموسة للأشياء؛ إنه يتحرك في عالم
من الماهيات، ويبقى محصورا في مجال الإمكان.لذلك من المستحيل التفكير في
الواقعي على هذا النحو؛ فهناك كما يقول كيركيغارد " بين الفكر والوجود صراع
حياة أو موت ".
وأخيرًا، سعى هيجل إلى تطوير علم موضوعي لذاته.لكن لا يمكن تجاهل المفكر، الفرد
الحقيقي الذي بدونه لن يكون هناك فكر أو نظام مجرد." البروفيسور مشتت الذهن
"أليس هذا أمرا مضحكا؟ فمن فرط التأمل في العالم، نسي الوجود. لكن بالنسبة
لإنسان ما، فإن المصلحة العليا على عكس ذلك موجودة.
هل هذا النقد يحتم علينا التوقف عن التفكير؟الجواب المطلق هو لا.وإنما هذا يعني
فقط أن الإنسان يجب أن يبتدئ بالتفكير، أن يعرف المرء نفسه، وينكب على معرفة ما
معنى أن يكون المرء إنسانا، وأن يعيش إنسانيًا.هذا الجهد البشري لمعرفة الذات،
يسميه كيركيغارد "التفكير الذاتي"؛ إنه انعكاس ملموس للفرد على نفسه، بهدف
تحديد السمات الأساسية للحالة الإنسانية.فما هي هذه السمات؟
أولاً، كل إنسان فريد، وأصلي تمامًا، لأنه "فرد".وشخصيته سرية لا تنتقل لأن جهد
التعبير لا يمكن أن يستنفذ ثراء قلب الإنسان وتعقيده.من ناحية أخرى، فالوجود
البشري صيرورة:الإنسان ليس كذلك بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ يمكن أن يصبح شعاره،
حسب كلمات غوته: "كن من أنت عليه" ، لأن على الجميع أن ينتصر على نفسه وأن يقهر
إنسانيته وشخصيته.
ثانيا، كل إنسان حر، وربما تكون هذه السمة هي الأعمق.كل اختياراتنا غير متوقعة
ولا يمكن تفسيرها بالمنطق والاستدلال؛ والجميع يلتزم كليا بقراراته، وفي
النهاية يختار نفسه باختيار وجوده. ويستنتج من هذا كله أن الإنسان يعاني، فكل
إنسان لديه هذه المعاناة بشكل أو بآخر، بمن في ذلك من هم في ظروف أخف أو الأكثر
سعادة، فالإنسان وحيد، منعزل، كينونته تنساب وتهرب منه، وهو يحس بأنه مسئول في
كل لحظة عن وجوده.وهذا هو ما يسميه هيغل بحالة "الوعي الشقي"، لكن هيغل اعتقد
بأنه مرحلة متجاوزة بفعل حركة الروح.أما كيركيغارد، على عكس ذلك، اعتبر بأن هذه
هي الحالة الطبيعية غير القابلة للعلاج عند الإنسان.
على هذا النحو نصل إلى النقطة المركزية في فكر كيركيغارد،
وهي عقيدة المراحل، أو بشكل أفضل، مجالات الوجود.وهي قريبة جدا من عقيدة
الأنظمة الثلاثة عند باسكال[i].
بحيث إن الإنسان قد يعيش وفق ثلاثة مخططات:الأول، مخطط الباحث عن الجمال المادي
المتعجرف، فهو يرفض الالتزام بمهمة جادة، ويعيش فقط على سطحيات الأشياء وسطحية
ذاته، شعاره هو شعار هوراس[ii]:الاستفادة
من كل لحظة في سبيل المتعة أو اللذة:
Carpe diem.الثاني،
هو المخطط الإتيقي: وهو الحياة الجادة الخاضعة بأكملها إلى الواجب، وهي التي
يجد الإنسان فيها السلام والضمير الحي.لكن هناك مخطط أسمى أيضا، وهو:المخطط
الديني.ندخل إليه بالإيمان، أي التضحية بالعقل أمام العبث
Credo quia absurdum.
يعيش المسيحي في حضور الله، "أمام الله"، وبذلك يجد نفسه، ويعترف بنفسه كمذنب،
لكنه ينجذب إلى سمو روحي لا متناهٍ مصدره الأساسي هو الحب.
بين هذه المراحل الثلاث لا توجد علاقة منطقية، ولا أي وساطة، إذ ينبغي القفز من
إحداها إلى الأخرى بقرار حر بإطلاق.
ومع ذلك، من الممكن تحضير القفزة، في المجالات الداخلية، بنوع من الديالكتيك
السلبي، ليس منطقيًا، بل وجوديًا. بحيث تجر السخرية من يحب الجمال إلى اليأس،
من خلال جعله يدرك عدم رضاه، وحتى اشمئزازه من الملذات التي يربط نفسه بها. ذلك
أن الفكاهة تثير قلق الإنسان المسئول، من خلال إظهار أن الأخلاق لا تحكم كل
شيء، وليست هي الكمال الأسمى للحياة البشرية.ولكن بعد القيام بذلك، يظل الجميع
متروكا لحريته ومسؤوليته. قد يثبّت المحب نفسه في يأسه ؛ يمكن للرجل الواجب أن
يضع سلام ضميره فوق الكمال الروحي. يفقدون أنفسهم بعد ذلك ، عن علم ، لأنهم
يريدون ذلك.والمتعجرف قد يثبت نفسه في يأسه، والقائم بالواجب يضع راحة باله فوق
الكمال الروحي، فهما يضيعان نفسيهما عن علم لأنهما أرادا ذلك.لكن كيركيغارد في
شبابه مر من هاتين المرحلتين، والتزم بجهد لا متناه بأن يصبح مسيحيا.
ب-هوسيرل:
إن طموح هوسرل ليس وجوديًا بأي حال من الأحوال، إنه تأملي خالص، وهو: تأسيس
الفلسفة باعتبارها "علمًا دقيقًا" ، أي لإعطائها مبادئ نظرية مطلقة.لهذا استعاد
الشك المنهجي لديكارت، وطبقه بطريقة أكثر صرامة.وهذا هو ما يسميه :"الاختزال
الفينومينولوجي"، وهو بذلك يقود إلى وضع العالم وكل العلوم المتعلقة به بين
قوسين؛ بل أكثر من ذلك، الإنسان نفسه كعنصر من عناصر العالم، أي "الذات
التجريبية" ، وجميع العلوم التي تتخذ منه موضوعا لها.فماذا يبقى إذن؟
الأنا أولا، الوعي، وهو ليس تجريبيا، بالطبع، لكنه خالص، وهو الذات العارفة في
حد ذاته بوصفه كذلك.غير أن الوعي لا يمكن أن يكون فارغا أبدا، فهو يقصد دائما
موضوعا، شيئا ما يتراءى أمامه، أي ظاهرة ما. إذن يجب تطوير الكوجيطو، ليس كما
أراده ديكارتcogito
ergo sum
"أنا أفكر ، أنا
موجود"، ما يعود بالأنا إلى المخطط التجريبي أو الدنيوي، وإنما إلى
ego cogito cogitatum،
("أنا أفكر فيما هو مفكر فيه من قبل") وهذا المفكر فيه قد يكون يكون فكرة ما،
أو إحساسا ما، أو ذكرى معينة، وبالتالي فهذا "الكوجيطاطوم" إذن ليس صورة عن
العالم، بل هو العالم ذاته.وهو ما يدعوه هوسيرل" التدفق الخالص للتجربة
المعاشة"، ومن هنا حدد هوسيرل مهمة الفينومينولوجيا في وصف وإضاءة وكشف هذا
المعطى الأولي غير القابل للاختزال.
تتضمن الفينومينولوجيا إذن تحليلا للأنا:من هو الكائن الواعي، وما الوجود
لذاته؟وبعد ذلك تحليلا لقصدية الوعي والموضوعات التي يثيرها:ما هو
الإدراك،التخيل، الرغبة الخ، وفي علاقة بذلك ما هو المدرك، المتخيل، والمرغوب
فيه الخ؟ وفي النهاية، تحليلا للأشياء ذاتها كما تمثل للوعي، كما هي بالنسبة
للوعي، أي كظواهر.
ج-المدرسة الوجودية:
نتجت المدرسة الوجودية عن التقاطع بين مذهب كيركيغارد ومنهج هوسرل.لكن المدرسة،
بعد كل شيء، هي مجرد نوع وتجريد.وإذا نظرنا عن كثب، لا يمكننا
تجنب التمييز بين عدة تيارات منذ البداية. اثنان أساسيان، يمكن تسميتهما
باليمين واليسار، أو بإمكاننا استعادة لعبة كلمات هيدغر:الفلسفة الوجودية
والفلسفة
الكينونتيةphilosophie
existentielle et la philosophie existentiale..
من المهم التمييز بين "الوجودي"existentiel،
وهو كل ما يتعلق بالطريقة التي يختبر بها الإنسان وجوده، يفترضه ويوجهه. وأما
النعت
existential[iii]
فهو دال على كل ما يتعلق بالتكوين الجوهري للوجود البشري
(وليس بما نفعله به، وما نشعر به حيال ذلك، وما نتوقعه منه)، وهو شيء وجودي،
أسلوب حياة، مشروع حياة، أسلوب حياة وجودي. لكن حقيقة أن حرية الإنسان هي حرية
في الموقف أو أن وجوده هو في الواقع تعايش، أي "وجود مع الآخرين"، فهي حقيقة
وجودية.
إن ما يميز بين هذين التيارين في العمق هو الموقف من
الإله.اليسار ملحد، واليمين مسيحي، أو على الأقل مؤمن.في هذا الإطار، نحس فورا
بأن هذا من شأنه أن يصنع فارقا مهما في وصف الإنسان.فمن جهة، هذا الإنسان متروك
لأمره، وهو في عزلة رائعة أو بالأحرى مروعة.فالعبث هو قانون وجوده. بحيث تؤدي
الوجودية إلى التشاؤم المطلق. ومن الجهة الأخرى، تلتقي التجربة الإنسانية
بالإله، ما يجعل العبث عندئذ يصرع[iv](بضم
الميم، على نحو ما يحدث في طرد الأرواح) إذا جاز التعبير.فإن لم يسد التفاؤل
المطلق بالنسبة للكثيرين، هنا على الأقل ثمة إقصاء للتشاؤم.ويتزعم مارتن هيدغر
اليسار الوجودي في ألمانيا، وفي فرنسا يتزعمه جان بول سارتر،أما اليمين في
ألمانيا يقوده ياسبيرز، وفي فرنسا غابرييل مارسيل.
2-المواضيع الرئيسة للوجودية:
يبدو أن ظهور الوجودية في بلد ما من البلدان مرتبط بمروره من أزمة سياسية،
اقتصادية واجتماعية.فقد نشأ هذا التيار في ألمانيا إبان الفوضى التي تلت هزيمة
1918.وفي فرنسا حصل نفس الشيء، فقد حققت الوجودية نجاحها عقب هزيمة 1940.لكن
الظروف الاجتماعية لا تفسر كل شيء، ذلك أن المناخ الفكري العام مارس فعلا
وازنا.فقد كانت الأرضية في ألمانية قد تهيأت على يد شوبنهاور ونيتشه،أحدهما
يعرض العبثية الأساسية للرغبة في العيش، والآخر مذهبا إنسانيا مؤسسا على إلحاد
شرس. وفي
فرنسا، برغسون
هو الذي عبد الطريق للوجودية بفلسفته حول الحدس.
أ-هيدغر:
إن هدف هيدغر هو تأسيس انطولوجيا عامة، والكشف، كما يقول، عن معنى الوجود،
والجواب عن السؤال المهمل كليا من طرف الفلاسفة الكلاسيكيين :ما معنى أن نوجد؟
لكن، ومن أجل هذا، من المناسب أولا تحليل الوجود المتاح لنا، أي الوجود
الإنساني(الدازين
Dasein)لأنه
الكائن الوحيد القادر على التفكير والتساؤل حول وجوده.
يجب، حسب هايدجر، التمييز قبل كل شيء بين نوعين من الوجود:الوجود المبتذل
والوجود الأصيل.في الأول، الإنسان هو مجرد رقم قابل للتبديل، نوع من الآلة بدون
شخصية (das
Man)
، كيانه ينحصر في وظيفته الاجتماعية؛ ويعيش في عالم أليف، فالأشياء بالنسبة له
أدوات وأواني، ويهيمن عليه الاهتمام بالخبز اليومي.فهو يعيش غير أنه لا يوجد.
إن
الوصول إلى
الوجود الحقيقي يكون من خلال القلق.كل الناس قلقون، لكن معظمهم يرفض الاعتراف
بذلك؛ إنهم يخفونه عن أنفسهم، ويدفعونه بعيدًا، ويقتصرون على الوجود التافه.
فقط الفلاسفة يوافقون على الترحيب بالمعاناة وما تحمله من كشوف.
فماذا يكشف لنا
القلق؟ الحالة البشرية، كيان الإنسان، لا يوجد بشكل مجرد ومفهومي، ولكن بشكل
ملموس، من خلال نوع من الخبرة الميتافيزيقية. تأمل فقط أربع سمات للوجود البشري
الأصيل.
أولاً وقبل كل شيء، الوجود هو أن تكون في العالم. لقد "أُلقي بالإنسان في
العالم" منذ ولادته، وهو منغمس منذ لحظته الأولى في عالم معاد، ساحق ومهدد،
ويجد نفسه "مهجورًا" فيه. لكن، يجب ملاحظة أن وجودنا في العالم هو الذي يجعل
عالما متعارضا آخر ممكن الوجود.
لأن الإنسان لا يخلق العالم بالطبع إلا أنه هو
الذي
يعطيه معنى، يحوله من كائن خام (Seiendes)
إلى كائن (Sein)
من خلال مشاريعه التي تواجه مقاومة الأشياء. لماذا نحن في العالم؟ لا يوجد سبب؛
إنه شيء غير قابل للتفسير، غير مبرر و عبثي.إنها حقيقة خالصة، نوع من "الخطيئة
الأصلية"، ليست أخلاقية بل وجودية، وهي تؤدي إلى حقيقة أن وجود الإنسان محدود
ومشروط.
ثانيًا،
الموت ليس فقط هو اللحظة الأخيرة، نهاية الحياة، حدث بيولوجي، إنه بنية دائمة
لكياننا.
ذلك أن
الإنسان
كائن مقدَّر له أن يموت، كائن يحتضر، والموت تقييد تدريجي لإمكانياتنا؛ في
اللحظة التي يكتمل فيها المجموع، حيث يتثبت المجموع الكلي لإمكانياتنا، يقضى
على وجودنا ذاته. لا بديل ولا علاج ولا سبب أيضًا.الموت انتصار حادث قاسي على
مشاريعنا. والموقف الوحيد الكريم هو الاستقالة، والقبول الحر للمصير. وهكذا،
فإن الوجود الأصيل يطور باستمرار نوعا فرعيا من الموت.
وثمة خاصية أخرى للوجود الإنساني، وهي: الزمنية أو التاريخية.فلا ينبغي القول
كما جرت عادتنا بأن حياتنا منسابة، وتدور في الزمن.بل يجب القول بأن الإنسان
يتزامن، لأننا نحن الذين نصنع زمننا، فالزمنية هي طريقة الإنسان في الوجود:فهو
وجود مشتت ومنتشي.كما أن الإنسان يوجد خارج ذاته
hors de soi،
فهو يلقي بنفسه في المستقبل"أمام ذاته
en avant de soi،لأنه
لأنه ينتظر الحاضر باستمرار من خلال مشاريعه.
وهو في الماضي "خلف نفسه"، بهذا الجزء من نفسه الذي لم يعد قادرًا على تغييره،
والذي سقط في مجال الحوادث.فالوقت إذن هو نشوة مزدوجة، تقوم على الحاضر الذي
يصنع الإنسان نفسه فيه.
والحرية هي عمق الوجود الإنساني.وتستند دوما إلى وضعية معطاة والتي هي عبارة عن
حدث لا نستطيع تغييره.فهي ترتكز على التعالي وعلى تجاوز الوضعية التي نوجد فيها
سواء كنا نقبلها أو نرفضها.وهي لا تختفي إلا بالموت الذي يعمل على إقصاء كل
احتمال ممكن.ومن جهة أخرى، فإن الحرية هي التي تؤسس ماهية الإنسان، وهذا يعني
بأن كل يصنع نفسه بشكل حر، وليس شيئا آخر سوى ما صنعه من نفسه. هنا نجد أنفسنا
أمام مسؤولية كبيرة.نحن مسئولون ليس فقط عن أفعالنا بل عن وجودنا.وبصفة أوسع،
نحن مسئولون أيضا عن العالم، بسبب المشاريع التي نقوم بها والتي تعطيه معنا ما،
لأن ما يعطينا هذا العالم يعتمد على ما نطلبه منه.ويبدو أن عقيدة هيدجر تتمحور
حول الطابع المحدود والعرضي للإنسان.ولكن بما أن المخلوق يعتبر وحيدًا،
ومنقطعًا عن خالقه، فإن كل شيء عبثي في نهاية المطاف؛ حيث يجد الإنسان نفسه
حُرًا تمامًا، لكنه يصل إلى المعاناة من العدم.
ب-ياسبيرز:
مع ياسبرز، تغير المنظور بشكل ملحوظ، لأنه إن لم يكن مسيحيًا، فهو على الأقل
مؤمن، وأكثر إخلاصًا من هايدجر لإلهام كيركيغارد.لكنه أيضًا أكثر راديكالية من
هايدجر في وجوديته.إنه لا يطمح إلى ما وراء الوجود البشري، وحتى في هذا المجال
يرى أن الوصف دائمًا غير مناسب.ذلك أن
الفلسفة ترتكز على الوجود، وليس على الحديث عن الوجود.يبدأ ياسبرز من وجود
الإنسان في وضعيته الملموسة، لأنه لا يمكن لأحد أن يحرر نفسه منها، ويضع نفسه
في منظور غير شخصي.
إن هدف كل مجهود فلسفي، بالنسبة لياسبيرز، هو فقط إضاءة "الهاوية التي يوجد
فيها الأنا"، ومن خلال ذلك الوصول إلى التعالي، أي إلى الوجود المطلق.ونقطة
الانطلاق هي الأنا، وهي نوع من الكوجيطو، لكن أكثر عمقا من الكوجيطو الديكارتي
الذي يبقى محدودا في طرح قضية الفكر.وبدل القول أنا أفكر، من الأفضل القول أنا
موجود، لأنه النص الأساسي والوحيد للتفكير الفلسفي.لكن ينبغي التمييز بين نمطين
من الوجود:هناك الإنسان كجزء من الكون، أي كموضوع
Dasein،
والأنا بوصفه أنا
Existenz،
وهو ليس موضوعا، حتى بالنسبة إلى نفسه، ولا "ذاتا" بالمعنى العادي للكلمة، أي
الذات العارفة في الفلسفة المثالية.فمن هو الأنا إذن؟الأنا فعل، فيض من الوجود؛
لا يمكن أن يكون ممثلا بواسطة المفاهيم ولا معبرا عنه بالكلمات، "إنه يراوغ كل
معرفة محددة".لكنه معطى عن طريق تجربة حميمة وبدائية.وهدف الفلسفة ليس هو وصفه
مادام ذلك أمرا مستحيلا، وإنما مساعدة كل إنسان على الاختبار.
إن التجربة تكشف لنا عن الأنا باعتباره حرية، لأننا نقول نفس الشيء عندما نشير
إلى كونه عبارة عن فعل أو حينما نقول عنه بأنه حرية: إنه ينبع، ويطرح نفسه، وهو
بدء مطلق.
وبالتالي فإن مشكلة الحرية هي مشكلة خاطئة، لأنه لا ينبغي على المرء أن يبرهن
على ما يختبره المرء في نفسه وفي كل شيء آخر، فلكي يكون قادرًا على طرح
المشكلة، يجب على المرء أن يعرف بالفعل ما هي الحرية، وإذن أن يكون قد جربها.
لكن الحرية أيضًا غير قابلة للتفسير: ذلك أن الفعل الذي أعيش به، أكون بواسطته
أنا، ليس له سبب ولا علة. وعليه، فالحرية هي مبدأ التنمية البشرية.ففي عمقه،
على المستوى الأنطولوجي للأنا بوصفه أنا، هذه التنمية ليست تدريجية، متتالية،
بل تتحقق عن طريق اختيار فوري، في اللحظة الحاضرة، الغنية بالخلود.لكنه يتجلى،
على المستوى التجريبي في الأنا كموضوع، عبر تعاقب المراحل.والمصطلحان معا
ضروريان على السواء:بدون الأول، لن يكون الإنسان سوى حلقة في سلسلة أحداث
العالم، ولن يتقدم ، وبدون الثاني، سيكون جامدا في حد ذاته، ولن يتطور أبدا.
الوجود البشري هو بطريقة ما توتر بين قطبين:إنه يتجذر في الخلود ويزدهر في
الزمن.والأنا لا يتحقق في العزلة، فهو ليس عبارة عن موناد
monade،
إذ كل واحد في حاجة إلى التواصل مع الآخرين لكي يكون هو نفسه.ولا يتعلق الأمر
هنا بالعلاقات السطحية والخارجية التي تنشأ في حياة المجتمع والتي تسعى إلى محو
الإختلافات بين الأفراد، وإنما يتعلق بعلاقة أنطولوجية توحد نفوسا غير قابلة
للاختزال.
لكن هذه العلاقة هي الحب.زفي الحب، بالفعل، كل واحد يسلم نفسه للآخر ويحترم
أصالة وحرية الآخر.وهكذا يعتبر "النحن"سابقا ومؤسسا للأنا والأنت.
وأخيرًا، في فعل الحرية، ندرك بشكل غامض "التعالي". ماذا يعني ذلك؟ التعالي هو
الله. لكن ليس الإله التقليدي، الذي يُظهر نفسه بالعقل باعتباره السبب الأول
وهو "موضوع" فقط، وإنما بوصفه وجودا مطلقا، ما وراء كل مفهوم.ونحن لا ندركه إلا
كحد، بالمعنى الرياضي للكلمة،
باعتباره النهاية التي نتجه نحوها دون أن نكون قادرين على الوصول إليها.ففي فعل
الحرية يسعى الأنا إلى تحقيق ذاته، لكنه لا يصل أبدا إلى ذلك، لا أحد يحقق ذاته
بصورة كاملة.وهكذا، يوجه الأنا نفسه نحو وجود مطلق يتجاوزه بشكل غير محدود،
ويتعالى عليه.وفي إخفاقاته نفسها يكشف سر الوجود الإلهي، ويدرك الإله، لكن بشكل
سلبي، كهاوية وعدم لكل الأشياء المتناهية.وعلى هذا النحو تنتهي فلسفة ياسبرز
إلى الصمت، بعد استبعاد العقل، فهي تجربة خالصة.لكن ميزة ياسبرز تكمن في كونه
يرى بأن أعمق التجارب البشرية هي تجارب المتصوفة.