في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشــاء فلسفي من اقتراح سناء زلماط

 

النص: "لـم يعد العلماء يصرون على وجود ما يسمى "الحقيقية المطلقة" وإنما يرضيهم أن نظرية معينة قد صمدت أمام كل محاولات التفنيد، و ظلت قادرة على تفسير كل ما هو مفروض أن تفسره، ولقد ظل الاعتقاد سائد الأكثر من قرن أن معادلات " نيوتن " هي الحقيقة المطلقة، ثم جاءت نظريات " إنشتايــن" في النسبة لتكشف لنا عن خطأ معادلات " نيوتن " في حــالات معينة .

وأقـــرب شيء إلى المنطق هو الاعتراف بأن معظم النظريات العلمية قد توافرت فيها المقومات التي تجعلنا نعتبرها حقائق مؤكدة، بينما اختلف نصيب نظريات من هذه المقومات، مما يجعلها موضع مفاضلة، فلو تساوى هذا القدر في نظريتين "متنافستين" فالنظــرية الأكثر نجاحا في حــل المشاكل (وبخاصة الصعبة)هي التي تأخذ بصحتها، إلى أن تظهـــر أخرى أقوى منها."

** حــلـل وناقــش **

امتحــان الباكالــوريــا / جميع الشعــب العلميـة والتـقنيــة والأصـليــة/ الـــدورة الاستــدراكيــة 2008-

 

    يتـــأطـــر النص داخل مجال المعرفة والذي يعتبر جانبا من أرقـى أشكال وأبعاد الوجود الإنساني، فالمعرفة علاقة تربط الإنسان كذات عارفة بالعالم كموضوع للمعرفة. وقد حظيت المعرفة داخل الفلسفة بعناية خاصة تتجلى في إحداث مبحث خاص بها، وهو مبحث الابستملوجيا أو نظرية المعرفة، وفي رحاب هذا المبحث طرحت الأسئلة الكبرى المتعلقة بالمعرفة العلمية من قبيل : من أين يستمد العلم علميته؟ من سلطة العقل أم من التجربة؟ أي مقياس ممكن للعلمية؟ وإذا كانت الحقيقة هي ما يروم العلم بلوغه، فأي معنى للحقيقة العلمية؟، وما هـو معيار الحقيقة في العلم؟ الصرامة المنطقية أم الموضوعية أم المنفعة؟ .

     لقــد تعددت وتنـوعت مقاربة الفلاسفة بهذا الصدد معبرة بذلك عن اختلافهم وعشقهم للمعرفة، والنـص الذي بين أيدينا يعد مساهمة في إغناء هذا النقاش، فالنص يتناول مفهوم الحقيقة كمفهوم مرتبط بمفهوم النظرية، ويتســاءل النص عن طبيعة هذه الحقيقة التي تتضمنها النظــرية العلميــة أهي نسبيـة أم مطلقـة؟.

     يــؤكد النــص على أن العلماء لم يعد يصرون على وجـود ما يسمى  بالحقيقة المطلقة، بل ما يرضيهم هو أن نظــرية معينة قد صمت أمام كل محاولات التفنيد و ظلت قادرة على التفسيـر، و لقد ظل الاعتقاد سائدا لأكثر من قرن أن معـادلات نيوتن هي الحقيقة المطلقة، ثم جاءت نظريات "إنشتاين" النسبية لتكشف لنا عن خطأ معادلات نيــوتن في حالات معينة، وبالتالي تم تجاوز الاعتقاد في وجود حقيقة علمية مطلقة و نهائية وذلك ما أكدته النظرية النسبية، ومن هناك أصبحنا نتحدث عن قابلية النظريات العلمية للتفنيد والخطـأ كما ذهب إلى ذلك كارل بــوبــر.

     ويـذهـب النص إلى أن الشيء الأقرب إلى المنطق هو الاعتراف  بأن معظم النظريات العلمية قد توافرت فيها المقومات التي تجعلنا  فيها المقومات التي تجعلنا نعتبرها حقائق مؤكدة.          فــي حين اختلف نصيب نظريات أخرى من هذه المقومات، مما يجعلنا نتحدث عن مفاضلة بين هاته الحقائق، فلو تساوى هذا القدر في نظرتين متنافستين، فالنظرية الأكثر نجاحا في حل المشاكل وخاصة الصعبة هي التي نأخذ بصحتها إلى أن تظهر أخرى أقوى منها، وبالتالي لم نعد نؤكد على أن صحة النظرية هي في تماسكها المنطقي والداخلي كما يذهب   إلى ذلك أصحاب الاتجاه العقلي، أو أن صحة النظرية هي قابليتها للاختبار والتجريب والتحقق من مدى علميتها كما يذهب إلى ذلك التجريبيون، بل أصبحنا نعترف بالتفاضل بين النظريات العلمية من حيث إظهار تفوقها وقدرتها على حل المشاكل الصعبة. ومن هنا أصبح الفلاسفة يحملون شعار الأصح هو الأصلح أمام هذا التعدد للحقائق.

     وبالتــالي نتحدث هنا عن عــدم وجـــود حقائق مطلقة في العلم كما يوضح النص، وهنا يحيلنا النص على تصورات متعددة التي تعتبر الحقيقة مطلب أساسي تسعى وراءه كل الاتجاهات التي تريد إضفاء الصبغة العلمية على نشاطها. من هنا نجد أن الحقيقة تبنى داخل النظرية ، والتــي تعتبر المجال الذي ينتج فيه العقــل الحقيقة، كما يذهب إلى ذلك أصحاب التصور العقلي يؤكدون على أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته وذلك عندما يكون منسجما داخليا خاليا من التناقض وعندما تكون النتائج مستنبطة بشكل برهاني من مقدمات أو أولويات افتراضية وأن معيار صحتها هو المنطق، وبالتالي فإن علمية العلم تقاس بمدى منطقية البناء النظري أي مدى خلوه من التناقض الداخلي ومدى التزامه  بقواعد البرهان كما يرى إنشتاين ، وإن كان هناك دور للتجربة في علاقتها بهذا البناء المنطقي، فهو فقط المصادقة عليه أو على أبعد تقــديــر أن يساعــده في ترشيــده.   

و بالتالي فالعقل يتدخل نظريا وتطبيقيا كما بين إنشتاين.

     وفــي مقابل هـذا التصور نجد الموقف التجريبي الــذي يعتبر التجربة أساس بناء الحقيقة، وهي تتحكم في البناء النظري للعلم، بحيث أن النظرية هي تركيب لمجموعة من النتائج الملاحظة المبنية على الاستقراء . فنظـــرية "نيوتن" عن الجاذبية هي تعبير رمز رياضي عن ظواهر قابلة للملاحظة والإدراك بواسطة الحواس مثل سقوط الأجسام، وبالتالي فمعيار صحة  نظرية ما هي قابليتها للتحقق الاختباري أي المراقبة والملاحظة. فالتجربة إذن تمثل المحك النهائي لاختبار النتائج التي تنتهي إليها صحة النظرية أي مطابقة الفكر للواقع. وبموازاة هذين الموقفين هناك موقف ثالث يقدم بديلا لهما وهو الموقف التفاعلي الذي يقر على أن العقل لا يمكنه أن يتلخص  من هيمنة الواقع وحبال التجربة، بل لا بد أن يعود إليها لإضاءتها بأدوات ومناهج،  ولم تعد   التجربة كما تصورها الموقف التجريبي والنزعة الاختبارية التي تتحكم في البناء النظري للعلم، كما لم يعد العقل كما تصورته النزعة العقلانية مكتفيا بذاته ومعزولا عن الواقع. بل إن العقلانية المعاصرة هي عقلانية فلسفية مطبقة، إذ لا يمكننا فهم عمل العلم وإدراك قيمته الفلسفية إلا في ضوء فهم العلاقة الجدلية بين العقل و الواقع كما يذهب إلى ذلك  كلود برنار الذي يؤكد على تفاعل العقل و التجربة من خلال الاستدلال التجريبي و كذلك باشلار الذي يـــؤكد على العقلانية المطبقة و يـــــدعـــو فيها إلـــــى تبادل الاعتــــراف بين العقلانييــن و التجريبيين، وبالتالي الإقرار بأن الممارسة النظرية للعلم بقدر ما تقتضي عقلا خلاقا بقدر حاجتها الى الجهد الاختباري يمد النظرية بسند التجربة ويؤكد باشلارعلى لأن عالم الفيزياء يحتاج إلى يقين مزدوج : أولا يقيــن بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلــي، فيكون ذلك مستحقا لاسم الواقع العلمي ، وثانيــا  يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة ، بحيث لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختباريــة عميـــاء.

وباختلاف هذه التصورات وتعددها تختلف معايير علمية النظرية العلمية. فإذا كانت العقلانية الكلاسيكية في شخص ديكارت تعتبر البداهة و الصرامة المنطقية التي تجمع النتائج بمقدمات البناء العقلي هي معيار أو مقياس صدقية أوعملية النظرية العلمية. وإذا كانت النزعات التجريبية  تقيس علمية النظريات العلمية بمدى قابليتها للصمود أمام محك التجربة كما سبق الذكر، بحيث يفترض في تلك النظريات  التحقق التجريبي، فتتبين موضوعيتها بعيدا عن الآراء الذاتية. فإن الواقع الجديد لتطور المعرفة العلمية وما أقره من تعــــــــدد و غنى بفعل انفتاح مختلف العلوم على عوالم مستجدة اقتضى تصورا لمعيار النظرية كتصور كارل بوبر الذي يؤكد على أن علمية النظرية العلمية هو التحقق من قابليتها للتكذيب والتفنيد. فالأهم ليس هو البرهنة على صحة النظرية العلمية و بالتالي ما تحتويه من حقائق بل البرهنة على خطئها، ولعل ما حصل في الرياضيات في شقها الهندسي  لخير دليل، بحيث أن علمية هندسة أقليدس لا تعود إلى يقين بديهياتها ومسلماتها وحدودها بل قابليتها، أو على الأقل قابليتها لأن تكشف عن محدوديتها أو نسبتيها و بالتالي عدم إطلاقيتها على جميع المجالات وهو ما سيحصل مع ظهور الهندسات  اللا أوقليدية ، بحيث تبين نسبية الأولى باعتبارها تصلح للسطح المنبسط ،في حين أن الثانيــة تصلــح فـــي وســـط مقعـــر.

     ومن هنا نخلص إلى أن مقيــاس علمية النظرية إذن هو انفتاح النظرية العلمية  على احتمالات تجــاوزها بحيث أن علمية العلــم رهينة بنسبية أحكامه وبمــدى صلاحيتها في حل المشــاكل الصعبة إلـــى أن تظهــر أخـــرى كما ذهــب إلــى ذلك النـــص.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال