تحيل القولة التي بين أيدينا إلى انتمائها لمجال المعرفة عموما،
والمعرفة العلمية خصوصا، وترتبط بشكل أخص بإشكالية علاقة المفاهيم
النظرية العلمية بالواقع الخارجي، ويمكن في هذا الصدد صياغة الإشكالات
التالية هل الاعتماد على التجربة في بناء المفاهيم العلمية
(الفيزيائية) يعني إقصاء للخيال والتأويل في بناء هذه المفاهيم؟ وما هي
العلاقة بين مفاهيم العقل ومعطيات التجربة في بناء هذه المعرفة؟.
إذا ما تأملنا في القولة التي بين أيدينا يتضح أن
صاحبها يريد أن يبين لنا دور العقل والخيال البشري في إنتاج المفاهيم
الفيزيائية خاصة والعلمية عموما، وينفي أن إنتاجها يتحدد فقط انطلاقا
من العالم الخارجي.
لعل أول ما يواجهنا في القولة الفلسفية هو المفاهيم المستعملة فيها، إذ
هي المفاتيح التي نفهم من خلالها ما أراده قائلها أن يوصله لنا،
والقولة الماثلة أمامنا لا تخلو من هذا الشرط فهناك مفهوم " المفاهيم
الفيزيائية " وهي تلك المفاهيم العلمية التي تستعمل في الحقل الفيزيائي
وتتميز بالصرامة والدقة العلميتين، وكذلك مفهوم "العالم الخارجي" وهو
العالم الطبيعي المحسوس.
يتبن لنا إذا بعد معرفتنا للمستوى المفاهيمي الذي استعمله صاحب القولة
أنه يدافع عن فكرة مفادها أن العقل النظري والخيال البشري الحر له دور
مهم في إنتاج المفاهيم العلمية (الفيزيائية مثلا)، وينفي أن إبداعها
يتحدد فقط من العالم الخارجي.
ويمكن أن نجمل المستوى الحجاجي للقولة على صغرها أنها انتقاد ورد على
كل من يدعي أن المعرفة العلمية أو المفاهيم العلمية لا تبنى إلا
بالاعتماد على العالم الخارجي فقط. فما هي قيمة هذه القولة؟
لقد أعطت هذه القولة نظرة شاملة وموقفا إبستمولوجيا بإبرازها لجدلية
علاقة النظرية بالتجربة وصعوبة القول أن العالم الخارجي فقط هو المحدد
أو المبدع للمفاهيم الفيزيائية.
لقد جاءت القولة في سياق الرد على المعتقدين بمرجعية التجربة وحدها
لتكوين معرفة علمية أو إبداع مفاهيم فيزيائية، ولكن الأمر غير ذلك،
فحتى ما هو عقلي نظري كفيل لإبداع المفاهيم الفيزيائية موازاة مع
التجربة، كما ذهب إلى ذلك العالم الفيزيائي والرياضي ألبير إنشتين الذي
اعتبر أن البعد العقلاني النظري ضروري في كل معرفة علمية، ويتجلى ذلك
في قيام هذه المعرفة على قوانين عامة وقواعد رياضية. فهو يصف الفيزياء
بأنها "فيزياء نظرية" كما ينعث المفاهيم والقوانين العلمية بأنها
رياضية، والنظرية العلمية في آخر المطاف هي "بناء رياضي" يستند على
العقل.
وهذا ما ذهب إليه أيضا الإبستمولوجي "غاستون باشلار" حيث يؤكد على
أهمية قيام حوار جدلي بين العالم العقلاني والعالم التجريبي، ذلك أن
التجربة العلمية المميزة بالعامل التقني والاختباري تتداخل مع المفاهيم
العقلية المتميز بنظرياته وافتراضاته، إذا فالمعرفة العلمية ليست
تجريبا أعمى، كما أنها ليست عقلانية فارغة، من هنا تتبين جدلية النظري
للتجريبي.
هكذا إذن نستخلص من التحليل أن المعرفة العلمية بدون
نظرية عقلية تظل جوفاء، والمعرفة العلية بدون تجربة حسية تظل عمياء.