يتميز مفهوم الحقيقة
بدلالاته المتعددة والمختلفة ،فهو بالنسبة للبعض الصدق والحكم المطابق
للواقع ،وعند البعض الآخر الواقع وما يدرك حسيا ،وقد عرف لالاند في
معجمه الفلسفي الحقيقة بأنها خاصية ما هو حق والقضية الصادقة ،وما تمت
البرهنة عليه وشهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو رآه وبمعنى أعم
الواقع ،وبالتالي فهذا الإختلاف في مدلول الحقيقة يدفعنا لطرح مجموعة
من الإشكالات المتعلقة بهذا المفهوم الذي يستخدم في سياقات مختلفة .
-
هل يمكن
اعتبار كل فكرة مرتبطة بموضوع ما حقيقة ؟ أم أن للحقيقة معاييرها التي
تميزها عن ما هو خاطئ ؟.
-
وما هي
المعايير التي يمكن أن نستند إليها للوصول إلى الحقيقة ؟
-
إلى أي حد
يمكن الحديث عن الطريق أو الطرق المختلفة التي ستؤدي إلى الحقيقة وتصل
إليها ؟
يبدو أن الحقيقة ليست واحدة
وإنما لها مظاهر مختلفة فإذا اعتبرنا أن الحقيقة هي ما نبحث عنه فقد
يختلف هذا الذي نبحث عنه من إنسان إلى آخر ،من مجال إلى آخر ،من مجتمع
لآخر ، ومن ثقافة لأخرى .
ونظرا للإلتباس الذي يتميز
به مفهوم الحقيقة لتعدد معانيه ،فإن ذلك يستدعي التمييز في بادئ الأمر
بين مستويين من المعرفة كما صرح بذلك الفيلسوف برتراند رسل :
1-
معرفة
الأشياء التي تكون مباشرة والتي لا تحتمل الخطأ لأنها معرفة بذاتها لا
يمكن أن تكون مخطئة أو باطلة .
2-
معرفة
الحقائق بحيث نعتقد فيما هو باطل مثلما نعتقد فيما هو حق وما يضاد هذه
المعرفة هو الخطأ .
يرى أفلاطون أن الوصول إلى
الحقيقة يقتضي عدم الثقة في الحواس لأنها خداعة ومموهة ،أو في الآراء
الشائعة والمتداولة بين الناس ،لأن البحث عن الحقيقة يستوجب تحرر العقل
من قيود الحس للوصول إلى عالم المثل عالم الحقائق الأزلية الثابتة
،وهي عملية صعبة التحقق لأنها تتطلب الكثير من الصبر والتحمل والشدة
نستحضر في هذا السياق أسطورة الكهف عند أفلاطون والتي جسدت انتقال
مجموعة من الأشخاص من مرحلة وجودهم في الكهف والذي يمثل المعتقل الحسي
الزائف إلى مرحلة الخروج إلى مصدر النور الحقيقي عالم الحقائق في ذاتها
.
أما ديكارت في كتابه مقال
في المنهج فيقول :
من الأولى عدم البحث عن الحقيقة بصدد أي شيء كان بدل البحث عنها بدون
منهج
.أي مجموع القواعد العقلية المعتمدة في البحث
العلمي والمؤدية إلى الحقيقة وتجاوز الرأي الذي يشكل عائقا أمام قيام
معرفة حقيقية وقد اعتبر باشلار بدوره الرأي عائقا أمام تكون المعرفة
العلمية لأنه لا يفكر ،لذا ينبغي هدمه أو تخطيه .وبالتالي وجب حسب
ديكارت اعتماد خطة الشك المنهجي في كل الآراء والمعتقدات الشائعة التي
لم يصادق عليها العقل عن طريق الحدس والإستنباط لأنها غير واضحة
ومتميزة.
في حين يتحدث
باسكال عن عدة أنواع من الحقائق ليرد من خلال أطروحته على العقلانيين
(ديكارت) الذين جعلوا العقل مصدرا لكل الحقيقة والشكاك الذين أنكروا
وجود هذه الحقيقة بشكل مطلق فالعقل في نظر باسكال لا يمكن احتكار
الحقيقة ومعرفة كل شيء بل هناك طرق مختلفة يمكن أن تؤدي بنا إلى
الحقيقة كالقلب والآراء الخاصة التي ينبغي الإنطلاق منها بوصفها حقائق
أولى وباعتبارها حقائق صادرة عن القلب يمكن للإنسان أن يدركها مباشرة .
.بالنسبة للتجريبيين
مثل لوك وهيوم فقد اعتبروا التحقق الحسي معيارا لكل حقيقة وذلك لإثبات
العلاقة الواقعية بين العبارات والنظام الموضوعي للأشياء ،وبتالي فهم
يعتقدون أن الإستعانة بحاسة أو أكثر لإثبات هذه العلاقة سيؤدي بنا إلى
صحة القضية بدون شك أو جدال ،أما في تصور البرجماتي وليام جيمس فمعيار
الحقيقة هو المنفعة ،فالحقيقة ليست لها غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة
للتوصل إلى حاجات أخرى ،فالأفكار الصحيحة والصادقة والحقيقية هي
الأفكار التي تمكننا من معرفة الوقائع الضارة لتجنبها والوقائع النافعة
للإستفادة منها.
أما الحقيقة في نظر
نيتشه فهي وهم وضلال تحول بسبب الزمن والنسيان إلى قيمة مقدسة ،ويرجع
سبب هذا الوهم إلى مصدرين أساسيين ،المصدر الأول يتجلى في حاجة الإنسان
إلى السلم والمسالمة وتجنب الحروب للحفاظ على بقائه فهو بذلك يستخدم
عقله من أجل إخفاء الحقيقة لدرء ما يمكن أن يجنب الخطر ويحفظ بقائه
،أما المصدر الثاني فهو اللغة والتي اعتبرها نيتشه مجموعة من
الإستعارات والتشبيهات والمجازات التي لا تنقل الواقع كما هو بل الواقع
كما يريده الإنسان أن يكون وذلك لارتباط المعرفة بذات الإنسان ومالها
من أهواء وغرائز وصراعه من أجل الحياة وحفظ بقائه ،في حين يتصور فايل
على عكس نيتشه أن قيمة الحقيقة لا تكمن فيما تكشفه من أوهام وأخطاء
وإنما تكمن في جعلها ضد العنف ،فأساس الحقيقة حسب فايل لم يعد مرتبطا
بتطابق الفكر مع الواقع وإنما في تطابق الإنسان مع الواقع ومع الفكر
وتطابقه مع الخطاب المعول المتمثل في خطاب الحقيقة .
نافل القول يتبين
مما سبق ،أن الطريق المؤدية إلى الحقيقة ليست مفروشة له بالورود وإنما
هي طرق غير معبدة يستلزم السير عليها الكثير من الجهد والصبر والتحمل
فالحقيقة قد تظهر لنا بألف وجه ووجه نظرا لإستعمال هذا المفهوم في
سياقات ومجالات مختلفة جعل البعض يقول "أن لكل واحد حقيقته" بقي أن
نشير إلى أن الحقيقة قائمة وموجودة ولا يمكن إنكارها يكفي فقط إيجاد
الطريقة المناسبة لبلوغها وإثباتها .