في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشاء فلسفي من اقتراح سفيان مكافيح

 

السؤال:

هل تشكل حرية الغير عائقا أمام حريتي ؟

موضوع البكالوريا الدورة العادية يونيو 2008. مسلك: العلوم الإنسانية.

 

   لعل الإنسان، من حيث هو شخص يعيش في هذا العالم، ليس فردا معزولا، بل إنه كائن اجتماعي بطبعه، في حاجة دائمة إلى العيش مع الآخرين و الأغيار في إطار علاقات متبادلة تفرض نفسها على كل فرد. و عليه، فإن الوضع البشري يقوم على أساس علاقات إنسانية تنهض على أسس عقلية و أخلاقية كونية.

  و لعل السؤال المعروض على أنظارنا يلامس منطوقه جانبا من هذه العلاقات الإنسانية، فهو يعرض لمسألة علاقة الغير بالأنا، و أثر هذه العلاقة على حرية كل منهما بصفة عامة، و على حرية الأنا بشكل خاص، تحديدا فيما يتعلق بحدود حرية الغير بالمقابلة مع حرية الأنا. و يتأطر موضوع هذا السؤال ضمن مجزئتي " الوضع البشري " و " الأخلاق "، باعتباره أنه يعرض لمفهوم الغير في ارتباطه بمفهوم الحرية.  و على هذا الأساس يمكننا صياغة الإشكال التالي :

هل يشكل وجود الغير حدا أمام حرية الأنا ؟ هل الغير من حيث هو ذات أخرى مختلفة عني ومشابهة لي, في الوقت نفسه, يمثل حدا لحريتي أم أن وجود هذا الغير هو الشرط الضروري لتحقيق حرية الأنا و وعيها بذاتها ؟ و على أي أساس تقوم علاقة الأنا بالغير بوصفه ذاتا ممتلكة للإرادة و الحرية ؟

  من خلال ملاحظة منطوق هذا السؤال يتبدى لنا أنه يطالبنا بشكل ضمني، إن كنا نتفق أم لا مع الموقف الفكري، الذي يرى بأن حرية الغير تشكل عائقا أمام حرية الأنا. و قبل إبداء رأينا في هذا الموقف، تجدر الإشارة_ أولا_إلى طبيعة هذا الموقف، و تقديم التبريرات التي حذت  به إلى اعتبار أن حرية الغير تمثل حدا لحرية الأنا و عائقا أمامها. و في هذا الإطار، يمكننا الاستئناس بموقف الفيلسوف و الأديب الفرنسي Jean Paul Sartre الذي ذهب في كتابه " الوجود و العدم – L’être et Le Néant  إلى التنصيص على تلك النظرة التشييئية التي يمارسها الغير على الأنا في إطار العلاقة الصميمية التي تجمعه به، و كمثال على ذلك يقدم سارتر ظاهرة الخجل La Honte كظاهرة سيكولوجية تنتاب أحيانا الأنا جراء حضور الأخر/الغير و إحساسه بمراقبته له، و في هذا يقول سارتر : « إن الخجل في تركيبه الأول هو خجل من الذات أمام الأخر، فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير ». و يضيف موضحا، «قد تصدر عني حركة غير لائقة، و هذه الحركة تلتصق بي، لا أحكم عليها و لا ألومها، لكن بمجرد ما أشاهد شخصا يرمقني، و يتبين لي أنه اكتشف ما في حركتي هذه من سوقية، فأشعر بحالة الخجل و تذب في أوصالي، لا أجد لها مخرجا إلا بالهروب والتستر عن نظرات الغير التي تجمد حركاتي.. ». هكذا، يؤكد سارتر على تلك الهيمنة التي يمارسها الغير على الأنا من خلال نظرته إليه، و التي تحد من إمكانياته و تمارس عليه نوعا من العنف الذي لا يمكن التحرر منه. و بالتالي، فحرية الغير في نظر سارتر تحد من حرية الأنا وتشكل عائقا أمامها، و تحول دون ممارسة الذات لسلوكاتها و تصرفاتها بعفوية و تلقائية.

  و لئن طلب منا الإجابة عن هذا السؤال و تحديد موقفنا الفكري من الأطروحة المتضمنة فيه، لأمكننا تفصيل القول في ذلك وفق الشكل التالي:

أولا، يرصد هذا السؤال مفاهيم جوهرية وجب تحديدها أولا قبل الشروع في إبداء رأينا من الموقف المذكور:

-         مفهوم الحرية: يدل هذا المفهوم على تلك الحالة التي يحس فيها الفرد بغياب أي إكراه اجتماعي مفروض عليه، بحيث يكون حرا في أن يفعل كل ما لا يمنعه القانون و حرا في أن يرفض القيام بكل ما لا يأمره بفعله.

-         مفهوم الغير : يدل هذا المفهوم على الأنا الذي ليس أنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا بل بوصفه أنا  أخر يتجلى ضمن علاقة تعايش معطاة و يحيل على إمكانية تماه أو تطابق.

-         مفهوم العائق : يتخذ هذا المفهوم بعدا أخلاقيا و اجتماعيا، فهو يحيل على كل ما يحد الفعل الإنساني و يمنعه، و كل ما يفرض على الفرد بوصفه أنا من ممارسات تستجيب لإكراهات خارجة عنه. و قد وظف هذا المفهوم في السؤال بمعنى الحد الذي تتوقف عنده حرية الأنا.

-         مفهوم الأنا ( حريتي ): يعبر هذا المفهوم عن حقيقة الإنسان الثابتة و الحاملة لكل الحالات النفسية و الفكرية و مجموع الأحاسيس التي يشعر بها الفرد، و تلك التي تذكره بها الذاكرة. و يعبر لفظ " الأنا " عن الجانب الواعي في شخصية الإنسان، كما يحيل على الأنا التي تحدث عنها ديكارت ضمن الكوجيطو، بوصفها ذاتا تمتلك خاصيتي التفكير و الوجود.

هكذا يبدو لنا، أن هذه المفاهيم التي لامسها منطوق هذا السؤال جاءت لتعبر عن إحدى جوانب الوضع البشري، و التي تتجلى في العلاقة التي توجد بين الأنا و الغير، و التي تتأسس على قيمة الحرية بوصفها قيمة أخلاقية كونية يشترك فيها الأنا و الغير على حد السواء.

ثانيا، فلقد كان لأطروحة جون بول سارتر حول علاقة الغير بالأنا، وهي الأطروحة المعبر عنها ضمنيا في هذا السؤال، قيمتها الفكرية و التاريخية. فقد ساهمت في إغناء و إثراء الفكر الفلسفي المعاصر، خاصة ما يتعلق منه بالوجود الإنساني و ما يطرحه من إشكالات تتعلق بالوضع البشري و ما يتصل منها بمسألة علاقة الغير بالأنا.

ثالثا، فإن للموقف المتضمن في السؤال من المواقف المؤيدة له قدر ما له من المواقف المعارضة. ومما يؤيده ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني المعاصر "مارتن هايدجر-Martin Heidegger" الذي اعتبر أن الوجود مع الغير في الحياة المشتركة مع الناس، يفرغ الذات من إمكاناتها أو تفردها، فيفقد الشخص هويته، إذ سيشبه الناس و كأنه لا أحد. وبالتالي، فإن ما يحيل عليه موقف هايدجر هو أن وجود الأنا و حريته تغيبان و تذوبان في ظل عالم الناس بوصفه عالما من الأغيار. و مما يعارضه ما ذهبت إليه " حنا أرندت Hanna Arendt " حينما اعتبرت أن حرية الذات /الأنا لا تتحقق إلا على مستوى العلاقات الاجتماعية و الممارسات السياسية، إذ لا يمكن تصور الحرية خارج العلاقات الإنسانية داخل المجتمعات المنظمة و المحكومة بتنظيم سياسي.

رابعا، فإن حالة الصراع المفترضة بين الأنا و الغير، و ما ينجم عن ذلك من التشيئ الحاصل بين الذوات_حسب سارتر_، تعتبر أمرا ضروريا. فهي ما يمكن الأنا من تجاوز نظرة الغير و التحرر من قبضته ليحقق الوعي بذاته بوصفه ذاتا حرة و متعالية، فلولا الغير لما استطاع الأنا أن يحقق حريته، و لما أدرك طبيعة وجوده بوصفه وجودا حرا. و بالتالي، فالعلاقة مع الغير يجب أن تقوم على مفهوم الغيرية_ حسب أوجست كومت_ بوصفها نكرانا للذات و تضحية من أجل الغير. كما ينبغي لهذه العلاقة أن تجسد قيم التفاهم و الحوار و التسامح _ كما تذهب إلى ذلك جوليا كريستيفا_ بدل الإقصاء و التهميش.

خامسا، ما كانت حرية الغير عائقا أمام حرية الأنا، باعتبار أن العلاقة بين حرية الغير و حرية الأنا هي علاقة متلازمة و متشابكة، بحيث لا يمكن للأنا أن يمارس بعيد عن حرية الآخرين باعتباره يعيش في عالمهم بما هو عالم الناس، و ذلك وفق القاعدة القائلة : حريتك تتوقف عند حدود حريتي.

   أخيرا، فقد دار السؤال المقترح علينا على مسألة علاقة حرية الغير بالأنا، و وجدنا له الجواب القائل بأن حرية الغير لا تشكل عائقا أمام حرية الأنا. غير أنه لما كان من شأن الفلسفة ألا ترضى بالأجوبة الجاهزة، و أن تنفتح دوما على كل ما هو محتمل و نسبي، فإن القول في هذا السؤال هو قول ممكن، بحيث أنه قد يكون خطأ يحتمل الصواب، و صوابا يحتمل الخطأ.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال