ثمة
فكرة كادت أن تصير من فرط شيوعها بداهة في أنظار أصحابها مفادها الخضوع
للقانون الأخلاقي لا يلغي حرية الإنسان، والحال أن السؤال يطرح مسألة
حرية الشخص في ارتباطها بالقانون الأخلاقي من حيث الخضوع.
إن الناظر
الممعن في هذا السؤال يستوقفه أول ما يستوقفه، أمران أساسيان:مداره
وسياقه، فأما مداره فهو يندرج ضمن مجزوءة الوضع البشري ، أي أننا أمام
محور الشخص بين الضرورة والحرية، أما سياقه فهو يندرج بالتحديد ضمن
إطار الجدل الدائر بين مختلف المفكرين و العلماء حول ما إذا كان الخضوع
للقانون بما هو واجب يلغي في نهاية المطاف حرية الشخص . فمن المشكلات
التي يجيب عنها المحور: هل الشخص كيان خاضع لإشراطات وحتميات، أم أن
الشخص قادر على الاختيار وتحمل المسؤولية؟، بمعنى هل للشخص القدرة و
الإرادة على الفعل و الاختيار بكل حرية أم وجود الشخص مشروط و محكوم
بضرورات طبيعية، اجتماعية، أخلاقية... تحد من حريته في الفعل و
الاختيار؟
ينطوي
هذا السؤال على مجموعة من المفاهيم، بمكن اختزالها في ثلاثة مستويات،
نبدأ أولا من حيث استعمال الأداة، هل ، التي من خلالها طرح السؤال ،
ذات البعد الاستفهامي الذي يفيد الاختيار بين موقفين متعارضين. مما
يعني أن الخضوع للقانون الأخلاقي إما يلغي حرية الشخص باعتباره مجموعة
من الاكراهات والحتميات التي تقيد الشخص وتحد من حريته ، أو أن القانون
الأخلاقي هو بمثابة سند ودعم يقوي حرية الشخص، فيجعله ذاتا قادرة على
الاختيار و الفعل. ضدا على مسألة الخضوع، الذي يعني الانقياد
والاستسلام ، و قبول سلطة معينة هي خارجة عن سلطة الذات، فيتقوقع تحت
لوائها، فلا يكاد يتحرر منها، أما القانون الأخلاقي، كمفهوم أساسي في
هذا السؤال، فهو يعني مجموعة من القوانين المنظمة و الموجهة لسلوك
الفرد ، و التي يمكن التمييز فيها ها هنا بين مكونين أساسيين: إما أن
نكون بين قانون ذاتي بوصفه قانونا أخلاقيا يمليه علينا الواجب
الأخلاقي، أي حضور فكرة الضمير. و بين قانون وضعي باعتباره مجموعة من
المبادئ المتواضع عليها من طرف الأفراد. و كدا مفهوم الحرية الذي يحيل
على إمكانية التصرف و استقلالية الفكر، بالتنصل من القيود التي تعرقل
عملية التحرر. هذا ونجد لهذا السؤال من الآراء المؤيدة بقدر ما توجد له
من الآراء المفندة ، فما يؤيده ما ارتآه انجلز ، من خلال مؤاخدته على
تصرف سارتر في فهم حرية الشخص باعتبارها حرية مثالية ذاتية لا وجود
لها في الواقع، لأن الواقع هو في حقيقته مجموعة ضرورات موضوعية لا
يمكن تجاهلها، منها قوانين الطبيعة ، و القوانين الاجتماعية، و
البيولوجية... وهذا ما نلمسه من خلال قوله : لاتعني الحرية حلم
الاستقلال عن قوانين الطبيعة ، بل تعني الاختيار في نطاق معرفة تلك
القوانين. فالضرورة موجودة كحقيقة موضوعية ، يجب التحرر منها ، لا
تجاهلها و ذلك عن طريق المعرفة والعمل . فالأشياء التي تتحكم فيها
قوانين الضرورة تشعرنا بأننا أحرار تجاهها حينما نعرف تلك القوانين،و
نسيطر عليها بالعلم والمعرفة ، و على العكس من ذلك يرى رائد الوجودية
جون بول سارتر في قوله إن الإنسان مشروع، هذا الكائن المادي يتجاوز
الوضعية ، التي يوجد فيها ويحددها ، بالتالي عليها لكي تتموضع بواسطة
الشغل و الفعل والحركة... هذا الإنتاج للذات بواسطة الشغل والممارسة،
هويتنا الخاصة، .. ذلك ما نسميه الوجود، و لا يعني بذلك جوهرا ثابتا
مرتكزا على ذاته، بل نعني به عدم استقرار دائم ، و اقتلاعا لكامل الجسم
خارج ذاته، هذه القفزة نحو التموضع نسميها اختيارا و حرية. أي أن
الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا ... إننا لا ندرك دواتنا إلا من خلال
اختياراتنا و ليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائما غير مشروطة،
فالشخص حر بالمطلق ، مادام هو الذي يحدد من سيكون في المستقبل، أي عدم
اعتراف سارتر بأي ماض ما سابق على الشخص ، ذلك أن الإنسان في
البداية عبارة عن لاشيء، إنه لن يكون إلا فيما بعد، ولن يكون إلا وفق
ما سيصنع به نفسه، بيد أن حرية الشخص نابعة من اتجاه رغبته في التطلع
إلى المستقبل، وليس إلى الماضي ، فالماضي رمز للضرورة و التفسير ، أما
المستقبل فرمز للتحرر و الاختيار و حرية الفعل إن الإنسان يوجد أولا،
أي أن الإنسان في البدء هو ما يثب نحو المستقبل، إنه أولا وقبل كل
مشروع يعاش بكيفية ذاتية... و لا شيء يكون في وجوده سابقا على هذا
المشروع ، إن الوجود هذا يسبق الماهية.
انطلاقا مما
تقدم، نستنتج أن حرية الشخص في علاقتها بالخضوع للقانون الأخلاقي تطرح
مجموعة من الإشكالات ، و المواقف المتضاربة فيما بينها. فما يؤكده
انجلز في حديثه عن الضرورة التي يطرحها الواقع بما هي قوانين ملزمة
تحد من مثالية الموقف الوجودي الداعي إلى حرية الشخص المطلقة في تقرير
مصيرها.