تعتبر
إشكالية علاقة النظرية بالتجربة من بين الإشكاليات التي أثارت اهتمام
الفلاسفة والمفكرين، واجترحت لنفسها مساحة هامة داخل مؤلفاتهم
وكتاباتهم. وكيف يكون الأمر بخلاف ذلك وقد استأثرت بحقل خاص داخل
الفلسفة هو حقل الابستمولوجيا أو فلسفة العلوم، الذي له ما للفلسفة من
مفاهيم وإشكالات وأفكار مخصوصة.
ولعل
القولة المعروضة على أنظارنا لا تشذ عن هذه القاعدة، فهي تعرض لمسألة
علاقة النظرية بالتجربة، سيما في مسائل خاصة شأن علاقة النظرية
بالمعرفة. وعليه يمكن أن نصوغ الإشكال التالي: إذا كانت
كل من النظرية والتجربة تتدخلان في بناء المعرفة، فما الوضع الذي تأخذه
النظرية في هذا البناء؟ هل يمكن الاكتفاء فقط بالنظرية في بناء المعرفة
والوصول إلى الحقيقة أم أنها ليست سوى مرحلة أولى ممهدة في هذا البناء
قبل مرحلة التجربة ؟ هل تشكل النظرية أساس المعرفة ومنطلقها أم التجربة
أم هما معا؟
تكشف
النظرة الفاحصة في هذه القولة عن ثلاثة أمور: المدار الذي عليه دارت،
والسياق الذي وردت فيه، ثم الأطروحة التي قالت بها. فأما مدارها فهو
على مسألة علاقة النظرية بالتجربة، وأما السياق الذي وردت فيه، فهو
السياق الخاص ببناء النظريات العلمية في العلوم التجريبية المندرج
أساسا ضمن المبحث الموسوم بـ «فلسفة العلوم / إبستمولوجيا». وأما
الأطروحة التي قالت بها فمفادها أن النظرية ليست سوى إمكانية للوصول
إلى المعرفة ومعالجة مشاكلها.
الحال
أن هذه القولة قد تخللها بعض المفاهيم، والتي يمكننا رصدها وفق الشكل
التالي:
أولا:
نجد مفهوم "النظرية"، والذي يحيل عادة على كل نشاط عقلي تأملي يسعى إلى
تجريد الواقع وتجاوزه، من خلال تجاوز الممارسة والتطبيق والعمل
والتجربة. إلا أنه قد استعمل في هذه القولة بوصفه مجموع الأطروحات
والقوانين التي تؤسس نسقا متكاملا في مجال معين (الفيزياء مثلا).
ثانيا:
نجد مفهوم "المعرفة" والذي يقصد به ذلك النشاط الفكري والنظري الذي
يسعى الإنسان من ورائه إلى الوعي بذاته وبمعطيات العالم الخارجي.
ثالثا:
نجد مفهوم "مشكل" والذي إن دل فإنما يدل على كل التباس وغموض يحيط
بظاهرة معينة تقتضي إعمال العقل في التفكير فيها وتفسيرها.
ولعل
العلاقة الجامعة بين هذه المفاهيم داخل هذه القولة هي علاقة المعرفة
نفسها، باعتبار أن المعرفة هي بناء يقوم على أساس التفكير العقلاني في
المشاكل المتعلقة بظاهرة ما يراد تفسيرها للوصول إلى الحقيقة.
وبالتالي، فالنظرية ما هي إلا تفكير عقلاني في مشكل المعرفة.
من جهة
أخرى، فقد تضمنت هذه القولة بعض الأفكار والقضايا، والتي يمكن تفصيل
القول فيها وفق النحو الآتي :
أولا:
يرى صاحب القولة أن النظرية ما كانت هي المعرفة، بل هي مجرد منطلق أولي
للوصول إليها. فالنظرية هي مجرد مرحلة أولى من مراحل البناء المعرفي
التي تتيح الاحتمالات الممكنة للمعرفة.
ثانيا:
يعتبر صاحب القولة أن النظرية لا تقدم الحلول للمشاكل المتعلقة
بالمعرفة بقدر ما تقدم كيفية صياغة هذه الحلول من خلال معالجة تلك
المشاكل.
ولقد
استخدم صاحب القولة في تقديم أطروحته أسلوب التعريف، والذي وظفه
بنوعيه: التعريف بالإيجاب والتعريف بالسلب. فأما التعريف بالإيجاب، فهو
قولة : «بل ما يتيح المعرفة». وأما التعريف بالسلب فهو قولة : «ليست
النظرية معرفة... ليست حلا لمشكل».
وقد بنى
صاحب القولة أطروحته من خلال تفنيدها عبر أطروحة مناقضة تعتبر أن
النظرية معرفة، تمكن من حل المشاكل المتعلقة بها. والتي صاغها من خلال
تعريفه للنظرية بالسلب، ليعمد إلى تركيب أطروحته فيما بعد عن طريق أداة
الاستدراك "بل" ومن خلال تعريفه للنظرية بالإيجاب.
ويمكننا
الآن، بعد صياغة أطروحة القولة ورصد مفاهيمها وتحليلها، أن نتخذ مسافة
منها، لكي نتساءل أولا عن قيمتها التاريخية، وثانيا عن حدودها الفلسفية
بالمقارنة مع ما يؤيدها من مواقف، ومع ما يعارضها منها.
تكمن
قيمة هذه القولة التاريخية في كونها ساهمت في إثراء وإغناء الفكر
الفلسفي عامة، والفكر المتعلق بفلسفة العلوم (الابستمولوجيا) خاصة،
سيما وأنها كرست النظر في إشكالية علاقة النظرية بالتجربة، كإشكالية لم
يحسم الجدال فيها لحد الآن.
والحق
أنه توجد لهذه القولة المواقف المؤيدة قدر ما توجد لها من المواقف
المعارضة. فمما يؤيدها ما ذهب إليه موقف "تويليي" الذي اعتبر أن
الاختبارات المتعددة هي التي تضفي على نظرية علمية ما قوتها وتخرجها من
عزلتها عن الواقع. ومما يعارضها، ما ذهب إليه موقف "روني طوم" الذي
اعتبر أن عنصر الخيال (بمعنى النظرية) هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى
وتفسر ظواهره.
ختاما،
تأدت بنا رحلة تحليل هذه القولة ومناقشتها إلى تقرير الخلاصات التالية
:
أولا:
رأينا أن صاحب القولة تبنى أطروحة مفادها أن النظرية ليست سوى إمكانية
للوصول إلى المعرفة ومعالجة المشاكل المتعلقة بها.
ثانيا:
كان الرأي المعارض الذي عارضها هو رأي "روني طوم" والذي اعتبر أن عنصر
الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى وتفسر ظواهره.
ثالثا:
إن تأمل تاريخ اشتغال مفهومي النظرية والتجربة، يكشف لنا عن تداخلهما
وتكاملهما الضروريين، فهما يكونان معا النظرية العلمية التجريبية.
وقصارى القول في هذه المسألة هو أنه لا وجود لنظرية عقلية خالصة، ولا
وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل، إلا أنه لما كان من شأن الفلسفة أن
لا ترضى بالأجوبة الجاهزة وأن تنفتح دوما على كل ما هو نسبي ومحتمل،
فإن القول في هذه القضية يبقى قولا محتملا وممكنا لا جوابا ضروريا
ومنغلقا.