تأتي إشكالية الغير كحلقة أخرى من الحلقات التي يستعرضها مفهوم الوجود
البشري في بعده العلائقي، لاسيما في مسائل منه مخصوصة شأن علاقة الأنا
بالغير، أو الذات بالآخر، و ما تفرضه هذه العلاقة من تجاذبات بين ضرورة
الخضوع للقيود التي يفرضها المجتمع، و بين ما تتمتع به الذات الإنسانية
من إرادة ووعي و حرية، و لعل النص المعروض على ناظرنا لا يشذ عن هذه
القاعدة، فهو يعرض لمسألة العلاقة المعرفية بين الأنا و الغير. و
بالتالي فما استرعى انتباهنا هو أنه يحمل في طياته إشكالا: ماهو
الغير؟ هل يمكن معرفة الغير و التواصل معه، أم أن ذلك أمر مستحيل؟
و إذا كانت معرفة الغير مستحيلة، فما العوائق التي تحول دون
معرفة الأنا بالغير و التواصل معه؟ بعبارة أخرى هل عالم الغير هو عالم
منفتح أمام الأنا أم أنه منغلق، لا يمكن لهذا الأخير اختراقه و تجاوزه؟
هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟
بدءا يمكن للناظر في هذا النص، و الواقف على ما جاء فيه، أن تستوقفه
أمور ثلاثة: الإطار الفلسفي الذي يتأطر داخله هذا النص، و المدار
الذي يدور عليه، ثم الأطروحة التي يقول بها. فأما إطاره، فإن
النص يندرج ضمن مجزوءة الوضع البشري و تحديدا ضمن مفهوم الغير، خاصة
ضمن ما يتعلق بمحور معرفة الغير، و أما مداره، فهو حول إشكالية علاقة
الأنا بالغير، و أما أطروحته فبيانها أن التجربة الذاتية هي تجربة
معزولة عن العالم و غير قابلة للإدراك من طرف الغير خاصة أنها تعبر عن
الوجود الحقيقي ،أما على المستوى الإشكالي فالنص يميل لطرح جملة أسئلة
من بينها: هل يمكن معرفة الغير؟ و قبلا من هو الغير؟ كيف يمكن ربط
علاقة معه؟ ... تم سنتناول جملة مفاهيم و الملخصة فيما يلي:
الحميمية، الغير، الوجود الحقيقي، أما فيما يخص المناقشة فسأقف عند
المواقف المؤيدة للنص و التي يصوغها، ديكارت، سارتر، و كذا المواقف
المعارضة و التي يطرحها هوسرل.
-
يبين صاحب النص أن التجربة الذاتية هي الوجود الحقيقي، و هي تجربة لا
يمكن للغير أن يعيشها، لأنها تبقى بمثابة عالم الأنا المنغلق، فبين
الأنا و الغير جدار سميك لا يمكن تجاوزه رغم كل أشكال علاقات التعاطف و
المشاركة بينهما، و بذلك فمعرفة الغير تبقى معرفة مستحيلة. و قد صاغ
النص جملة مفاهيم من بينها مفهوم الحميمية، حيث يعبر عن تلك الحالة
الوجدانية التي يحس بها كل فرد في علاقته مع ذاته، و في انتمائه لها، و
التي تقوم على أساس حب الفرد لنفسه، و سعيه نحو الدفاع عنها ضمانا
للبقاء و حرصا على الحياة، و قد وظف صاحب النص هذا المفهوم، كعائق يحول
دون معرفة الأنا بالغير و التواصل معه، و كذلك الغير الذي يعبر عن
الأنا الآخر الذي ليس أنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا بل بوصفه أنا
آخر يتجلى ضمن علاقة تعايش معطاة، و يحيل على إمكانية تماه أو تطابق و
قد تم توظيفه من قبل صاحب النص، بمعنى الآخر الذي لا يشبه الأنا في
وجودها الذاتي، و كذلك مفهوم الوجود الحقيقي: الذي يحيل على تلك
الثنائية المتقابلة بين الوجود الحقيقي الأصيل و بين الوجود الزائف و
التي انفردت بها كتابات الفيلسوف الألماني المعاصر " مارتن هايدغر"
حيث كان يعتبر أن الوجود الحقيقي هو وجود "الدازاين" "الوجود هنا"
بما هو ذلك الإنسان المنفتح و المتعالي و المقيم في حقيقة الوجود، في
حين كان يعتبر الوجود الزائف هو وجود ذلك الإنسان الميتافيزيقي المغترب
عن وطنه الذي هو حقيقة الوجود، و قد وظفه صاحب النص بمعنى أنه هو
التجربة الوجدانية التي تعيشها الأنا، و التي لا يمكن للغير معرفتها.
يلتجئ صاحب النص في توضيح أطروحته إلى جملة من الحجاج،
إذ يرى أن وعي الأنا بوجودها هو وعي ذاتي فريد خاص بالذات وحدها، إذ لا
يمكن للغير اختراقه أو معرفته، على اعتبار أن الحميمية التي توجد عند
كل فرد مع ذاته، هي ما تحول دون إنشاء تواصل معرفي مع الغير و الآخر،
لأنها تعيش في عالم خاص بها، متميز معزول عن الذوات الأخرى، و عن تجربة
الغير، و المقصود بهذا أن الإنسان لا يمكن أن ينقل تجربته الذاتية سواء
أكانت فرحا أو حزنا إلى الغير، بل تبقى تجربته شخصية، ثانيا و تأسيسا
على الفكرة السابقة يعتبر صاحب النص أن عالم الأنا هو بمثابة سجن منيع،
لا يمكن للغير اقتحامه ذلك أنه بين الأنا و الغير سور متين لا يمكن
تجاوزه، سواء من طرف الأنا أو من طرف الغير حيث لا يمكن لهذا الشخص
التطلع و معرفة الآخر معرفة جوهرية، إذ يظل قبلا منعزلا داخل روحه و
وعيه الخاص به، و لا يمكنه كذلك نقل تجربته إليهم أو نقل تجربتهم إليه،
ولنعطي مثالا: يعيش شخص حالة حب و سعادة لكنه لا يستطيع البوح بها و
التعبير عنها. يقدم صاحب النص كدليل على استحالة العلاقة التواصلية بين
الأنا و الغير تجربة الألم كتجربة وجدانية فريدة خاصة بالأنا و بالذات
لوحدهما، رغم ما يظهره الغير من مواساة للأنا في ألمها، و محاولة
التعايش معه إلا أن تجربة الألم تظل تجربة شخصية خاصة بكل فرد على حدى
ليلخص صاحب النص في الأخير، إلى أن الإنسان يبقى سجين آلامه، يعيش عزلة
وجودية عن الآخرين، رغم طموحه اللامحدود نحو التواصل معهم فمثلا: عندما
يتألم شخص ما يمكنني أن أساعده ماديا و معنويا، بمواساته بعبارات الأسف
و المودة و الحب، و تقديم كل ما باستطاعتي له، لكن ألمه يبقى غريبا عني
و برانيا حيث لا أحس به بتاتا، إذ يبقى ألمه خاص به، يحس به بشكل مغاير
تماما عني، حيث يظل معزولا لوحده و بالتالي لا يحقق رغبته في التواصل.
و
قد اعتمد النص في بنيته الحجاجية على مجموعة من الآليات منها حضور
أسلوب التأكيد و الإثباث " إن الحميمية مع ذاتي... هي عائق" من
خلال هذا الأسلوب، سعى صاحب النص إلى التأكيد على عزلة الأنا الوجودية،
و استحالة تواصلها مع الغير و كذلك أسلوب النفي "... لا يمكن
للآخرين اختراق وعيي..." ، "... لن يتخلى عنها أبدا..."، و من خلال
هذه الآلية ينفي صاحب النص أن يعرف الغير بما تعيشه الأنا في دواخلها و
من جهة أخرى، ينفي توقف الإنسان عن أمله في التواصل مع الآخرين، أسلوب
الاستفهام: "... كيف لا أحس؟..."، هنا، و في بداية النص،
يتساءل صاحب النص عن تلك الازدواجية التي تتسم بها الذات، فهي من جهة
مميزة للفرد و محددة له عن باقي الأفراد، و من جهة ثانية، عائق امام
تواصل هذا الفرد مع الآخرين. حضور أسلوب الإستعارة: "... عالمي
السري سجن منيع"، من خلال هذا الأسلوب، استعار صاحب النص لفظة
"سجن"
ليحيل بها على عزلة الأنا الوجودية.
و
المستفاد مما تقدم أن تجربة الأنا الذاتية، تجربة معزولة لا يمكن لأي
أحد أن يعرفها أو يدركها بل تظل مرتبطة و لصيقة بالذات فقط، إذ أن
معرفة الغير للأنا أو الأنا للغير، معرفة غير ممكنة أو مستحيلة،
لكن إلى أي حد يمكننا الاتفاق مع صاحب النص في موقفه من الإشكاليات
التي طرحناها؟
هكذا و بعد استعراض مجمل الأفكار و المفاهيم التي قدمها النص،وبعد
استخلاص اطروحته و التوقف عند حججها يمكننا ان نتخد مسافة من النص, لكي
نتساءل أولا عن طبيعته الفلسفية باعتباره نصا حجاجي إذ يصوغ حجاجا و
يعتمد عليها، و هي حجج اختبارية تجربية من الواقع المعاش حيث يصور لنا
النص حالات ذاتية واقعية كتجربة الألم، التي تبقى تجربة وجدانية تخص كل
فرد، و التي لا يمكن للغير أن يعيشها بالشكل الذي يعيشها الأنا، و هي
حجة متينة و وجيهة و قد استعمل النص مجموعة من القيم الأساسية، منها
قيمة منطقية، حيث وظف صاحب النص الاستدلال المنطقي كأحد أقوى أنواع
البرهنة من مثل: " إن هذه الحميمية ... هي عائق..." تم قيمة
فلسفية، بتوظيف مصطلحات فلسفية من مثل: الانا ٬ الغير ،الوجود
الحقيقي،جوهر... توجد لهذا النص من الآراء المؤيدة بقدر ما توجد له من
الآراء المعارضة، فأما الآراء التي تؤيد أطروحته القائلة بأن العلاقة
المعرفية بين الأنا و الغير علاقة مستحيلة، يمكننا استحضار الموقف
الديكارتي الذي يشكك في وجود الغير و بالتالي معرفته أو معرفة و إدراك
تجربته الخاصة. بمعنى الاستغناء عن الغير أثناء تأكيد وجود الأنا، لأن
وجوده يتأكد من خلال ما تملكه هذه الذات من قدرة على التفكير بدون
وساطة أو مساعدة للغير، و بالتالي فديكارت يضع أناه الفكرية الذاتية في
مقابل العالم بشكل عام، و الغير بصفة خاصة. و كذلك هناك الموقف
السارتري، حيث اعتبر جون بول سارتر أن معرفة الغير هي معرفة مستحيلة
لأن العلاقة المعرفية بين الأنا و الغير تحمل تناقضا، و تقيم هوة سحيقة
تحول دون أي صلة بينهما، و بالتالي فمعرفة الغير تقتضي تحويله إلى
موضوع و تشييئه على نحو يكون معه فاقدا للوعي و الحرية.
و
على النقيض من ذلك ، فإن هناك الكثير من الآراء المعارضة لموقف صاحب
النص، إذ نجد إدموند هوسرل يسلك مسلكا مختلفا و يتخذ موقفا مغايرا،
الذي اعتبر أن العلاقة المعرفية بين الأنا و الغير ممكنة، لأن ما يتيح
إمكانية معرفية الغير هو تجربة التوحد به حدسيا أي أن تضع الذات نفسها
مكان الغير و تعيش تجربته، فالأنا تدرك العالم و تدرك الغير كجزء منه،
إنه عالم " البينذاتية" الذي يؤسس العالم الموضوعي، إذ أن إدراك
الغير بوصفه ذاتا تشبهني و تختلف عني، حيث يصبح هو أنا و أنا هو، الذي
يعتبر شرطا ضروريا لبناء معرفة موضوعية بالعالم. و بالتالي فهوسرل سعى
من خلال أطروحته إلى إعادة تأسيس الكوجيتو الديكارتي و إخراجه من عزلته
و فتحه على العالم.
انتهى بنا المطاف بعد تحليل و مناقشة هذا النص إلى تقرير أنه سعى الى
إبراز قيمة فلسفية فكرية، إذ ساهم في إثراء و إغناء الفكر الفلسفي و
ذلك من خلال طرحه لمسألة الوجود الإنساني في بعده العلائقي، أما إذا
طلب منا إبداء رأي في إشكالية العلاقة بين الأنا و الغير, لأمكننا
القول أن اختلاف التصورات حول العلاقة المعرفية بين الأنا و الغير(
مستحيلة ممكنة) يعود بالأساس إلى كيفية فهم و تحديد عملية المعرفة
نفسها، هل هي مجرد إدراك ذات لموضوع فتكون مستحيلة، أم هي إدراك ذات
لذات أخرى فتكون هذه المعرفة ممكنة عبر التواصل و التعايش مع الغير.