في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشاء فلسفي من اقتراح جواد بالكامل

 

السؤال:

الحقيقة هل هي معطاة أم بناء؟

امتحان تجريبي لسنة  2009

 

 

يضعنا هدا السؤال أمام موضوع الحقيقة، وقبل أن نجيب عن السؤال ونبين كيف تكون هده الحقيقة هل هي بناء ولمادا ليست معطاة؟ تجدر الإشارة أولا الى دلالة ما تعنيه  المفاهيم المركزية المؤطرة لمضمونه، والتي هي الحقيقة: معطاة، بناء. فما دلالة هده المفاهيم ادن؟

الحقيقة كما هي متداولة على المستوى اللغوي، تعني الصواب أو الصدق في مقابل الخطأ أو الكذب. وهو ما يحيل على مجالين مختلفين. مجال معرفي منطقي على الخصوص (الصواب الخطأ) وهو ما يمس الإنسان ككائن عاقل، ومجال أخلاقي، (الصدق الكذب) له علاقة بمنظومة القيم التي توجه سلوك الأفراد داخل المجتمع.

أما الحقيقة على المستوى التفكير الفلسفي، فهي كما يقدمها الفكر الفلسفي التقليدي : (مطابقة الفكر لموضوعه) وبالرغم من كون هدا التعريف للحقيقة، شانه في دلك شأن جميع المفاهيم الفلسفية ليس تابتا، بحكم اختلاف تصورات الفلاسفة الفكرية. أن هدا التعريف ، يضل بالرغم من دلك، دا قيمة ، من حيث كونه شكل موضوع اشتغال الفلاسفة المحدثين والمعاصرين، وحافزا لإبداعاتهم في مجال تحديد ماهية الحقيقة.

أما معطاة، فهي صفة لفعل أعطى وتعني كل ما هو ممنوح. وهو المعنى الذي يتماشى مع القول الذي يرى أن الحقيقة معطاة، أي مقدمة بشكل جاهز،بعكس الحقيقة كبناء ، أي تشييد وبدل المجهود لتحقيق دلك.

انطلاقا من هده التعريفات ننتقل إلى الإشكال المؤطر لمضمون السؤال،  والدي يمكن صياغته كتالي :

ادا كانت الحقيقة في دلالتها الكلاسيكية، هي مطابقة الفكر لموضوعه، فما طبيعة هدا الموضوع الذي يطابق الفكر هل هي معطى أم مبنى؟ واد كان معطى فهل هو معطى بشكل جاهز في الفكر أم في التجربة الحسية؟ وادا كان مبنى فكيف هي عملية بنائه ؟وهل للعقل والتجربة مساهمة في هدا البناء؟

وكجواب على هدا الإشكال، الذي يذهب إلى القول على أن الحقيقة ليست معطاة ونما هي بناء، تجدر الإشارة أولا إلى الموقف القائل بان الحقيقة معطاة، ولتوضيح معالم هدا التصور يمكن الاستئناس بما قدمه ديكارت .

لقد لاحظ ديكارت انه  باستطاعته أن يشك في كل شيء، إلا شيئا واحد لم يستطع الشك فيهن وهو الفكر الذي يشكل الاداة التي تشك. والا انهار البناء، فالشك ادن تفكير. وكوني – يقول ديكارت – اشك يفيد أني أفكر، وكوني أفكر يفيد ثبوت ذاتي. فالكوجيطو ادن هو الحقيقة أو اليقين الأول الذي توصل إليه ديكارت بعد عملية الشك. لأنه البداهة العقلية (الكوجيطو) والبداهة هي خاصية الأفكار الواضحة والمتميزة. وضحة لأنها تدرك بداهة وبدون واسطة، وكل فكرة بهده الصفة من اللازم أن تكون صادقة. وهي متميزة لأنها لاتختلط مع أي فكرة أخرى غيرها.

والكوجيطو كحقيقة أولى، يستوفي صفات البداهة، ومن تم كان حدسا، أي إدراكا عقليا أوليا، لا يحتاج إلى استنباط أو تحليل عقلي. لقد شكل الكوجيطو " أنا أفكر أنا موجود" الحقيقة العقلية الأولى التي مدت ديكارت بالسند القوي لإثبات حقائق عقلية أخرى. كوجود الله ووجود العالم. .. وهده الحقائق المتوصل إليها عن طريق الشك، كمنهج عقلي، ليست مبناة وإنما هي معطاة بشكل جاهز في العقل. دلك أن معرفتنا بشيء ما – يقول ديكارت – تبدأ بالعقل ومن العقل لا لشيء إلا لان به من الأفكار الفطرية ما يساعد على تحصيل المعرفة عن طريق الاستنباط العقلي وبمساعدة الحدس الذي هو "نور فطري يمكن الإنسان من إدراك الأفكار البسيطة والحقائق الثابتة مثل ( أنا افكر ادن انا موجود ). والدي يضمن وجود هده الحقائق المطلقة التي لايشوبها الشك في نظر ديكارت هو إيمانه بوجود الله ككائن أعلى جمع جميع صفات الكمال، وهو ضامن الحقيقة والإيمان أيضا، بوجود مبادئ منطقية رياضية ثابتة، كمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ التالت المرفوع، وهي مبادئ تعصم العقل من الوقوع في الخطأ، وتنير له الطريق إلى الحقيقة.

وانطلاقا مما سبق يمكن القول على أن الحقيقة بالنسبة لديكارت هي معطاة في العقل وليس في التجربة الحسية. لان هدا العقل به ما يكفي من الأفكار الفطرية العامة والشاملة والمشتركة بين مختلف العقول، ولهدا كان اعدل قسمة بين الناس، أما التجربة الحسية فإنها اتبتة عدم الاطمئنان إليها ، لهدا فان التعامل مع الأفكار – يعتقد ديكارت – يكون أيسر من التعامل مع الأشياء، لأنها تعتمد على نموذج يقيني دقيق، وهو النموذج الرياضي. لكن هل يمكن القبول بهدا الطرح لمفهوم الحقيقة؟ هل فعلا أن الحقيقة معطاة بشكل جاهز في العقل وتخضع لمبادئ عقلية ثابتة، ومن تم فهي حقيقة عقلية خالصة، لا علاقة لها بما يجري في الواقع الحسي التجريبي، أم أن الحقيقة هي مبناة وليست معطاة؟

لقد شكلت أطروحة ديكارت هده حول طبيعة الحقيقة كمعطى جاهز في العقل، امتداد لمواقف فكرية سابقة، متلها على الخصوص، أفلاطون الذي دهب الى تأكيد أهمية العقل في البحت عن الحقيقة، التي توجد بشكل جاهز في عالم مفارق للعالم المادي الدي نعيش فيه"عالم المثل" كما يسميه افلاطون. ويكفي للوصول اليها تكسير قيود الجسد، من حواس ورغبات وتجربة . ان نقطة التقاء كل من افلاطون وديكارت هو الإيمان بالعقل كمصدر وأداة للوصول الى الحقيقة، حقيقة الكون والطبيعة والانسان. أما نقطة الاختلاف بينهما ، هي ان افلاطون يؤمن بوجود الحقيقة في عالم علوي مفارق لعالمنا المادي هدا، بينما ديكارت: ان الحقيقة موجودة في العقل الإنساني، على شكل مبادئ وأفكار فطرية.

الا ان نيتشه رفض بقوة وجود حقيقة جاهزة سواء في العقل او التجربة ، لا وجود في نظره لحقيقة بشكل جاهز سواء في العقل او في عالم مفارق لعالمنا المادي "كعالم المثل الأفلاطوني"  ان الإيمان بهدا القول يقول نيتشه هو الإيمان بوهم ، دلك ان الحقيقة  موجودة في هدا العالم ولها ارتباط بحاجيات الإنسان الحيوية، ومتجددة بهده الحاجيات . وهدا ما يجب أخده بعين الاعتبار أتناء البحت عن الحقيقة، التي لاتنفصل في نظره عن نقائضها "الوهم والخطأ والكذب ..." بل هده النقائض تشكل عناصر ضرورية لوجود الحقيقة وهو مايمنحها طابعها نيبيا. وهدا ما أكده ميشيل فوكو، حيت اعتبر الحقيقة من هدا العالم تنتج فيه بفعل اكراهات متعددة، ولها في هدا العالم سلطة دات تاتير منتظم : معنى هدا ان الحقيقة لاتنتج في العقل ومبادئه المنطقية، ولا في التجربة بشكل مباشر، بل داخل شبكة من العلاقات الانسانية المناقضة المصالح، من اجل ممارسة سلطة اقتصادية او سياسية او اجتماعية .. لم يعد في هده الحالة معنى للتعريف الكلاسيكي للحقيقة، لقد اصبحنا الان نتحدت عن حقائق لا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع الخطابات الحاملة لها "خطاب علمي، سياسي، اجتماعي ، ديني..." مما يؤكد نسبية الحقيقة وان لاوجود لشيئ معطى  بشكل جاهز في العقل او التجربة. وما دامت الحقيقة مرتبطة بالخطاب، فان التساؤل المطروح هو ما نوع الخطاب الدي يحمل الحقيقة في العصر الراهن؟ ويسمح لنا بالتاكد ما ادا كانت الحقيقة معطاة او مبناة. يجيبنا ميشيل فوكو عن التساؤل قوله بان الحقيقة في العصر الراهن اصبحت مقصورة على شكل الخطاب العلمي، ومحصورة في المؤسسات التي تنتج هدا الخطاب العلمي.وهدا الخطاب في شكله الراهن اصبح له تصور خاص للحقيقة وما يؤسسها من عقل وتجربة،يتناقض تماما مع التصور الكلاسيكي لها. مما يعني ان الحقيقة وفق هدا التصور، مبناة وليست معطاة. وما يؤكد هدا هو نظرة هدا الخطاب العلمي الراهن للعقل البشري، لا باعتباره اناء او وعاء يحتوي على مضامبن او افكار اولية، كما اعتقد ديكارت وليبنز او مشكل من مقولات محددة ابرزها مقولات الزمان والمكان كما قال دلك كانط. ونما قدرة على انشاء منظومات من القواعد، وعلى تطيقها، وعلى اختبارها.

ليس هناك ادن للعقل بالنسبة للعلم المعاصر مضمون دائم، ليس هناك معطى عقلي. لم يعد العقل يعرف كمجموعة من المبادئ : انه القدرة على القيام بعمليات تبعا لقواعد  ... انه اساس نشاط وفعالية ... ان هده النظرة المعاصرة للعقل هي التي منحت الحقيقة العلمية طابعها النسبي والمتجدد باستمرار.

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال