في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشاء فلسفي من اقتراح أسماء البعمراني

 

السؤال:

هل هناك طريقة واحدة لبلوغ الحقيقة؟

الامتحان الوطني للباكلوريا - الدورة الاستدراكية 2008/ مسلك آداب.

 

       يتأطر مضمون هذا السؤال داخل مجزوءة المعرفة، ضمن مفهوم الحقيقة وبالضبط في إطار المحور الأول المعنون بالحقيقة والرأي، لكن قبل أن نتبين تصور مضمون هذا السؤال، تجدر الإشارة أولا إلى دلالة ما يعنيه مفهوم الحقيقة، فما هي دلالة هذا المفهوم؟.  

      يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسين هما الواقع والصدق، وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم والكذب، هكذا فالفكرة الصادقة والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي، كما تعتبر الحقيقة كل فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا.               

      من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالات متعددة دينية وعلمية واجتماعية...الخ، وفي جميع الأحوال فالحقيقة يتم التعبير عنها دائما بواسطة اللغة والخطاب، والإنسان دائم البحث عنها، وهو يستخدم في ذلك عدة وسائل وطرق، فكيف يمكن إذن بلوغ الحقيقة؟ وما هي الطرق التي تضمن بلوغها؟ وهل الحقيقة معطاة لنا في آرائنا أم يتم بناؤها بناءا منهجيا منظما ضد المعرفة العامية والرأي والمعتقد؟.                                             

      يتكون السؤال من عنصرين أساسيين: العنصر الأول يتمثل في بلوغ الحقيقة، حيث يطرح السؤال مسألة الوصول إليها، عبر استحضار العنصر الثاني وهو الطريقة، فمن أجل البلوغ إلى مسعانا الذي نحن في بحث مستمر عنه والذي تجسده كلمة الحقيقة كأبلغ تعبير، لا بد لنا من وسيلة أو بأحرى طريقة تمكننا من تحقيق ذلك، كما أن هذا السؤال وإن كان يكتفي بتساؤل حول وجود طريقة واحدة نحو الحقيقة، فهو يتضمن تساؤلا آخر مفاده هل هناك طريقة واحدة أم ثمة  طرائق متعددة لبلوغ الحقيقة؟.                                  

      بالنسبة لأفلاطون، هناك طريقة واحدة تفضي بنا نحو الحقيقة تتجلى في التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الأراء والمعتقدات السائدة، والإرتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة، ذلك أن الحواس حسب أفلاطون لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن عامة الشعب، وبالتالي فهي ليس بإمكانها أن تتولى مهمة إيصالنا نحو الحقيقة لأنها لن توصلنا إلا إلى نسخ وأشباه باهتة للحقيقة، فهي تقف عند حدود الظاهري المحسوس المتغير، في حين أن التأمل العقلي هو وحده ما يقودنا إلى إدراك حقائق عالم المثل أي عالم المعقولات المجردة التابثة والمطلقة الذي يمثل موطن الحقائق الأصلية في حين ما يوجد في العالم المحسوس هو مجرد انعكاس لعالم المثل.                                                                           

      إذن، فالبنسبة لأفلاطون لا وجود للحقيقة إلا في عالم المثل، ومن أجل بلوغها لا بد من أن نسلك طريقا معينا يحدده في التأمل العقلي الذي وحده كفيل بإيصالنا إليها.          

      هذا الموقف يتسم بقيمة فكرية لا غنى عن التعريف بها تتضح جليا من خلال صاحب الموقف، ألا وهو أفلاطون الذي يعود له الفضل في ترسيخ التفكير الفلسفي وذلك من خلال قوله بنظرية المثل التي تشكل بدورها محطة هامة وحاسمة في الفكر الفلسفي، وهذا يمكن التدليل عليه من خلال ما حظي به الفكر الأفلاطوني بصفة عامة من نقاش فلسفي لازالت أصدائه مستمرة على الرغم من توالي الأطروحات والنظريات الفلسفية، إلا أن قول هذا وبالعودة إلى أطروحته المتعلقة بالسؤال الذي بين أيدينا، لا يمنعنا من تبيان مسألة أساسية تتجلى في أن العقل ليس وحده القوة التي تمكننا من بلوغ الحقيقةّ، إذ هناك طرائق أخرى تتعدد بتعدد الفلاسفة الذين تطرقوا إلى مسألة الحقيقة، من قبيل الفيلسوف باسكال الذي يرى بأن العقل ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة، وإنما هناك مصادر أخرى لبلوغها، إذ         يمثل القلب قوة أخرى لإدراكها إدراكا مباشرا، فاللقلب حقائقه التي يعجز العقل عن الاستدلال عليها، وهذا العجز من طرف العقل لا يجب في نظر باسكال أن يجعلنا نشك في حقائق القلب التي هي مبادئ أولى تدرك بشكل حدسي مباشر، وتستنبط منها كل الحقائق الأخرى.  

      بالتالي، مع باسكال نجد إعلاءا من شأن الحدس والحواس خلافا  لما قال به أفلاطون، والذي قام بالحط من الشأن الحس باعتباره لا يؤدي إلى الحقائق الأصلية الموجودة في عالم المثل، في حين بالنسبة لبسكال فإن الحقيقة مصدرها القلب وإدراكها يتم بواسطة الحدس.                                                                         

      من الفلاسفة الذين اهتموا أيضا بهذه المسألة، نجد الفيلسوف الألماني كانط والذي قدم نظرة تركيبية للموقفين السابقين، بحيث أكد بأن بلوغ الحقيقة لا يمكن باعتماد الفكر المجرد وحده (العقل) أو التجربة الحسية وحدها وإنما يحدث ذلك من خلال تكاملهما معا.         

      ختاما، يمكن القول بأن طرق بلوغ الحقيقة- كما رأينا سابقا- تختلف باختلاف منظورات ورؤى الفلاسفة، كما تتعدد أيضا بتعدد المجالات المعرفية، حيث يحتكر العقل الحقيقة من زاوية نظر عقلانية مثالية ( أفلاطون)، ويصبح القلب موطنا لها (باسكال)،  ويمكن أن تكون نتاجا عن حدوث تكامل بينهما أي بين العقل والقلب (الحدس)  كما رأينا مع كانط.   

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال