يقودنا التفكير في مفهوم التاريخ من حيث هو تسلسل الأحداث الإنسانية
الماضية إلى الحديث عن مبدأ أو مبادئ تحكم مساره أو مساراته ، فالإنسان
كائن تاريخي يبحث دائما عن معنى لوجوده ، وعن منطق يحكم أعماله ، أثاره
وممارساته . و إذا كان المؤرخ يتساءل عن صناعة التاريخ فيعني به تحقيق
وسرد ما جرى فعلا في الماضي فإن الفيلسوف يتساءل عن موقع هذا الإنسان
في السياق التاريخي وعن طبيعة القوانين التي تحكم هذا السياق ، فيبحث
عن ماهية إنسانية مميزة له .
والحال هذه يحق لنا أن نتساءل عن دور هذا الإنسان في صناعة هذا التاريخ
؟ وهل لإرادة الإنسان دور في صناعة التاريخ أم أن التاريخ سير أحيانا
ضد هذه الإرادة ؟ بمعني أخر هل كل الأحداث التاريخية هي نتاج لإرادتنا
نحن أم أن إرادتنا بدورها خاضعة لهذا التاريخ ؟
إن القولة – قيد النظر- تؤكد في منطوقها محدودية الإرادة الإنسانية في
صناعة التاريخ و إن كان هذا الأخير لا يتبلور خارج هذه الإرادة ، فمن
خلال وقوفنا على المفاهيم الؤتتة لمضامين القولة نجددها تتحدد في
مفهومين ركيزين : إرادة الإنسان من جهة و صناعة التاريخ من جهة أخرى
فإذا كان المفهوم الأخير يحيل على المسار و الحركة التي تتخذها الأحداث
التاريخية ، إما بشكل تقدمي أو دائري ، فإن مفهوم الإرادة الإنسانية
يدل على حرية الفرد و قدرته على الاختيار باعتباره كائن عاقل وقادر على
تعقل الأشياء و التحكم فيها . و يصوغ صاحب القولة العلاقة بين
المفهومين من خلال تأكيده أن الإرادة الحرة تبقى في جزء منها مشروطة
بالوضع الواقعي للإنسان لكن هذا لا يعني الخضوع للضرورة بشكل مطلق ،
فالتاريخ مرتبط من جهة بإرادة الإنسان ومن جهة أخرى يسير ضد إرادته ،
فما السبيل للخروج من هذه المفارقة ؟
في محاولة لاستفتاح الطرح الذي تتضمنه القولة يمنكن أن نستأنس بما قدمه
أحد الفلاسفة المحدثين ، وهو الفيلسوف الألماني فرديرك هيغل
(1770-1831) فقد ذهب هذا الفيلسوف في كتابه " العقل في التاريخ " إلى
القول بأن صيرورة التاريخ محكومة بالروح أو المطلق الذي ينمو و يتجلى
في مختلف أشكال الوعي . حتى يحقق غايته النهائية التي هي الحرية و
التطابق مع مفهومه الأكمل ، أما الإنسان في نظر هيغل فدوره في التاريخ
يتجلى من خلال ما ينجزه العظماء الذي يجعل منهم هيغل مجرد وسائل تحقق
غايات العصر و الروح المطلق ، و هو ما يتبين من خلال قوله التالي " إن
عظماء التاريخ هم الذين يدركون ما هو كوني و يجعلون غيتهم التي
يحققونها طبقا للمفهوم الإرقى للروح المطلق ، ولهذا علينا أن نسميهم
الأبطال ، فهم لم يبحثوا عن غايتهم ولا عن مواهبهم في النظام القائم و
الهادئ بل أتوا بها من مصدر أخر : من الروح المطلق ..." و تجمع الناس
حول هؤلاء العظماء و مساندتهم لهم في مشروعهم ما هو في واقع الأمر إلا
إدراك من هؤلاء أن هذه الشخصيات التاريخية تمثل الاتجاه العميق للتاريخ
، الذي هو تاريخ الروح المطلق ، وليس تاريخهم الخاص ، ويقدم لنا هيغل
مثالا لهؤلاء الأبطال الذين كانوا مجرد وسائل في يد الروح لتحقيق
غاياتها ، فهناك لإسكندر الأكبر الذي مات شابا ، و القيصر الذي قتل ،
ونابليون الذي نفي فهؤلاء سقطوا كالقشور بعد أن حقق الروح التي هي
النواة غايتها .
فليس البشر إذن في نظر هيغل ، بمجتمعاتهم و شعوبهم و مؤسساتهم و دولهم
و إبداعاتهم سوى تجليات مؤقتة لحركة الروح البدائية " إنها أزياء
تجسيدات ترمز إلى مراحل من تحقق الروح " من هنا يمكن أن نفهم مقولة
هيغل المشهورة "
Tout ce qui réel est retionnel et tout ce qui retionnel est réel
" .
نخلص من هذا التحليل لتصور هيغل لدور الإنسان في صناعة التاريخ ، أن
التاريخ البشري هو تاريخ الروح العقل أو الروح المطلق ، و الإنسان يلعب
داخل هذا التاريخ دور الممثل و دور الحامل لفكرة تتجاوز و تتعالى عليه
لأنها من مصدر أخر غير ذاته ، لكن هل يمكن القبول بهذا التصور كحل
لإشكالية دور الإنسان في التاريخ ؟ هل فعلا أن الإنسان داخل التاريخ هو
مجرد أداة مسخرة ليس إلا في يد هذا التاريخ المتقدم نحو غايته لا محالة
؟ أم أن الأمر عكس ذلك ؟
أكيد أنه بالرغم من القيمة التاريخية و الفكرية التي تحتلها فلسفة هيغل
في تاريخ الإنسانية و الفلسفة على الخصوص بحيث قام بنقل العقل من طابعه
الستاتيكي (الثابت) القائم على مبادئ صورية ترفض التناقض و الذي عرف مع
كل من ديكارت و كانط ، إلى عقل دينامي يشتغل وفق مبادئ المنطق الجدلي
الذي يقوم على ثلاث لحظات و هي الإثبات و النفي و نفي النفي ، وهي
لحظات تشمل – بجانب العقل – الكون و الطبيعة و الإنسان ، لكن بالرغم من
أهمية هذا التصور الهيغلي للعقل ، كقوة لا متناهية متطورة ومنفتحة على
نقائضها ، فقد ضل العقل لديه ذو مسحة روحية تنأى به عن ما هو متعارف
عليه في ميدان العلم ، بل أكثر من ذالك فقد أوقف هيغل حركة العقل و
تطوره على المستوى السياسي في الدولة البروسية التي كان يعمل أستاذا في
جامعتها محفوفا برضاها . وقد لاحظ نيتشه ذالك بتهكم حينما قال : " إن
ذروة السيرورة الكلية لهيغل كانت حين أقام في برلين أستاذا في جامعتها
، فأصبح لا يعتبر إذ ذاك شيئا أعلى من الفن الرومانسي ومن الدين
المسيحي ومن فلسفته هو .." .
لقد تعرض هذا التصور المثالي للتاريخ إلى إنتقاد مجموعة من المفكرين و
على رأسهم الفيلسوف الألماني كارل ماركس
carl marx
1818- 1882 الذي رأى في الجدل
الهيغلي
النواة الأساسية للتطور التاريخي لكنه جدل – في نظره – يمشي على رأسه
وقد وجب قلبه و إقامته على قدميه ، لذا إقترح تصورا ماديا للتاريخ
البشري يقوم
بالأساس
على الصراع الطبقي ، ومفاده أن الفرد محكوم بشروط مادية إقتصادية على
الخصوص ، وفي هذا الصدد يقول : " إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم
الخاص ،
إلا
أنهم لا يفعلون ذالك عشوائيا و ضمن شروط من إ اختيارهم ، بل شروط معطاة
مسبقا و موروثة .." و يضيف في مؤلف أخر بعنوان " نقد الاقتصاد السياسي
" القول
التالي
: " في انتاجهم ال}تماعي لوجودهم يدخل الناس في علاقات محددة و ضرورية
و مستقلة عن ارادتهم ، و هي علاقات إنتاج تطابق درجة تطور محددة لقوى
انتاجهم
المادية ... ومن هنا فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الإجتماعي ،
بل و جودهم الإجتماعي هو الذي يحدد وعيهم "