تتأطر القولة التي بين
أيدينا ضمن مجزوءة المعرفة وترتبط بمفهوم العلوم الإنسانية وتتمحور حول
نموذجية العلوم التجريبية. فما المقصود بالعلوم الإنسانية ؟ وهل لوظيفة
النظرية العلمية داخل العلوم الإنسانية عامة ،وعلم الإجتماع على
الخصوص نفس الدور الذي لها داخل العلوم الفيزيائية ؟
تطلق عبارة '' العلوم
الإنسانية '' على مجموعة من العلوم التي تقوم بدراسة الإنسان من بينها
،علم الإجتماع ،علم النفس ،الأنثروبولوجيا وهي علوم نشأت ابتداءا من
القرن 19 من افتراض أساسي مفاده أن الإنسان موضوع مثله مثل باقي
الموضوعات الطبيعية يمكن أن يكون موضوع معرفة علمية لتصبح العلوم
الإنسانية مثلها مثل باقي العلوم الحقة تعتمد على مناهج ونظريات للوصول
إلى نتائج علمية ،وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل لوظيفة
النظرية العلمية داخل حقل العلوم الإنسانية نفس الدور والأهمية التي
لها داخل العلوم الطبيعية عامة أو الفيزياء على الخصوص ؟
تتبنى القولة أطروحة مفادها
ان ما يوجد في علم الإجتماع هو مجرد تقليد نظري ، في حين أن ما تعرفه
العلوم الفيزيائية هو الوجود الفعلي للنظرية .كما تعتمد على بنية
مفاهيمية مترابطة فيما بينها ، فهي تعتمد مفهوم علم الإجتماع وهو العلم
الذي يدرس الظواهر الإجتماعية ويعتمد في دراستها على المنهج التجريبي
،أي التعامل على الطواهر الإجتماعية على أنها أشياء مادية قابلة
للملاحظة والتجربة .
ويضاف علم الإجتماع إلى
علوم أخرى : علم النفس ، الأنثروبولوجيا ، التاريخ .....الخ.وهي علوم
يطلق عليها مصطلح ''العلوم الإنسانية '' لأنها اعتمدت في دراستها على
ظواهر إنسانية ونشأت ابتداءا من القرن 19 ،من افتراضمفاده :أن الإنسان
موضوع مثله مثل باقي الموضوعات الطبيعية يمكنه أن يكون موضوع معرفة
علمية أما النظرية فهي تشكل الوحدة الأساسية في نسق التفكير العلمي وهي
إطار تصوري يحدد المسلك المنهجي للباحث في تناوله لمعطياته ،كل هذه
المفاهيم : علم الإجتماع ، العلوم الإنسنية ، النظرية هي مفاهيم مرتبطة
فيما بينها .
وتعتمد القولة كذلك على
بنية حجاجية ترتكز على آلية الإثبات والتأكيد نستفيد من أطروحة
القولة ان وظيفة النظرية العلمية داخل العلوم الإنسانية ،وخاصة علم
الإجتماع لا يمكنه أن يرقى إلى مستوى وظيفة النظرية العلمية في العلوم
الفيزيائية أو التجريبية على العموم. باعتبار أن العلوم التجريبية هي
علوم نمودجية على مستوى تحقيقها للعلمية والموضوعية بخلاف لعلوم
الإنسانية التي بالرغم من كونها سعت إلى تحقيق علمية على نفس درجة
علمية العلوم التجريبية باعتمادها على مناهج أو نظريات إلا أن هذه
النظريات يعتبرها الكثيرون غير ملائمة للعلوم الإنسانية لأنه تم
اقتباسها من علوم حققت تقدما مهولا على المستوى العلمي ولذلك فهي
مخالفة تماما للعلوم الإنسانية .
وهي العلوم التجريبية التي
تتعامل مع ظواهر مادية في حين ان العلوم الإنسانية تدرس الإنسان . فكيف
إذن -وعلى ضوء هذا التمايز- أن تصبح وظيفة النظرية العلمية في العلوم
الفيزيائية مثلا هي نفسها وظيفة النظرية العلمية داخل العلوم الإنسانية
.بالنظر إلى أن ما تعرفه العلوم الفيزيائية هو الوجود الفعلي للنظرية ؟
ليبقى الجواب هو أن ما يوجد في علم الإجتماع هو مجرد تقليد نظري.
إلا أن هناك علماء اجتماع
معاصرون لهم وجهة نظر مغايرة تماما لأطروحة هذه القولة ''فجان كلود
بابييه'' يعرف علم الإجتماع بوصفه مبحثا علميا له مصادراته ونماذجه إلا
بيستمولوجية الخاصة ويضعه في الحدود الفاصلة بين الفهم والتفسير ، وبين
النمودج الجمعي والنمودج الذري..فهو يعتبر أن السوسيولوجيا هي علم فهي
تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد أو القوانين التي تتمفصل ضمن نظريات
وذلك من أجل كشف الظواهر الإجتماعية
إلا أنه يمكن الخروج من
هذين الأطروحتين المتناقضتين بأطروحة ثالثة مفادها أن وظيفة النظرية
العلمية داخل العلوم الإنسانية لها وضعية مخالفة لوظيفة النظرية
العلمية المتعلقة بالعلوم الإنسانية .
ذلك ان بناء نظرية علمية
حول التجربة الإنسانية في جميع أبعادها وعلى غرار النظريات العلمية
التجريبية يصطدم بذلك التداخل بين الذات والموضوع والذي يعتبر عائقا
أمام الموضوعية في العلوم الإنسانية .إلا أن الباحثين الإنثروبولوجيين
:''ف-لابروت طولرا'' و''ج-ب-وارنيي'' ذهبا في كتابهما ''إثنولوجيا
وأنثرولوجيا'' إلى عكس ذلك فهما اعتبرا أن الوضع الإيستيمولوجي ،وضع
لا ينبغي اعتباره أمرا سلبيا بل العكس هو مناسبة لتكييف المنهج
التجريبي مع خصوصية الظاهرة الإنسانية .
كذلك ميلوبونتي الذي اعتبر
أن الذات المصدر المطلق لكل معرفة .يصعب إذن دراسة الموضوعات الإنسانية
على ضوء النظريات العلمية التي تتخذ طابعا صوريا –تجريديا .والتي نجدها
في العلوم الطبيعية –الفيزياء على سبيل المثال – كما أن كل محاولة
لصياغة نظريات تنبؤية تنتهي بالفشل عندما يتعلق الأمر بالسلوك الإنساني
، الذي لا يمكن التنبأ بصدده فهو سلوك لا يمكن لنظرية كيفما كانت درجة
علميتها أن تقوم بتحديده بنفس درجة تحديدها للظواهر المادية .لأنه على
درجة كبيرة من التعقيد .وتبعا لذلك يرى البعض أنه من الضروري التحرر من
نمودج العلمية الفيزيائي لتحديد القيمة المعرفية للعلوم الإنسانية وفسح
المجال لنمط تأويلي يناسبها .لذلك إلى حين إيجاد نمط أو نمودج تأويلي
يناسب العلوم الإنسانية ، يبقى العمل بالنظرية العلمية داخل هذه العلوم
مازال قائما .