يتقدم النص الذي بين أيدينا
في سياق النقاش الفلسفي حول مسألة العلمية في العلوم الإنسانية التي
تطرقنا لها ضمن مجزوؤة المعرفة ، كإحدى المفاهيم الرئيسية و الكبرى في
حقل فلسفة العلم أو الإبيستمولوجيا ، و ما أفرزه هذا النقاش من طروحات
و نظريات متعددة لا تفتأ تطرح السؤال الإشكالي الكبير عن العلوم و درجة
الحقيقة و النسبية فيها ، إشكال عمل العديد من الفلاسفة و المفكرين على
تخصيص حيز هام من الاهتمام به في شتى مراحل حياتهم الفكرية و العلمية ،
من ديكارت إلى دفيد هيوم ، إلى أدام سميت إلى دوركهايم بورديو و آخرين
، و يحاول هذا النص الخوض في ذات الإشكال من خلال تناوله لمشكل المنهج
في العلوم الإنسانية و ذلك انطلاقا من طرح الإشكالات التالية : كيف
يمكن تحديد علم الإجتماع كأحد العلوم الإنسانية إنطلاقا من المنهج
المتبع فيه ؟ هل يعني هذا أن لعلم الإجتماع منهج خاص به ؟ ألا يمكن
تطبيق منهج العلوم الطبيعية في حقل علم الاجتماع ؟ ما هي التقابلات
الموجودة بين العلمين حتى يمكننا تطبيق ذات المنهج فيهما معا ؟
قبل الخوض في الإجابة عن
الإشكالات المقدمة أعلاه ، ينبغي أولا تحديد مفهوم علم الاجتماع و
مفهوم علم الطبيعة على اعتبار أنهما أكثر المفاهيم حضورا و تأثيرا في
بنية النص و في تكوين معانيه و أطروحته ، نجد علم الاجتماع رغم كل
الصعوبات الكبرى التي تحيط بأي محاولة لتعريف هذا العلم ، يعني العلم
الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية و المؤسسات و العلاقات بين
الأفراد داخل محيط جغرافي معين أو بين محيط و محيط أخر و قد ارتبط ظهور
العلم بالمحاولات الأولى لدى أفلاطون في حديثه عن الجمهورية الفضيلة و
مع العلامة ابن خلدون في علم العمران البشري ، لكنه لم يتأسس بالشكل
الفعلي الا مع أوغست كونت ، رغم أن الكثيرين يرون أن أصول العلم متشعبة
بين كتابات فلسفية عديدة ككتابات كارل ماركس و سان سيمون ، مما يجعل
صعوبة تعريف العلم صعوبة كبرى قد ترتبط أساسا بصعوبة تحديد موضوع العلم
، عكس العلوم الطبيعية ، و التي تعني مختلف العلوم التي تهتم بدراسة و
تحليل الظواهر الطبيعية من مثل الجيولوجيا ، البيولوجيا ، الفيزياء و
الكيمياء ، و هي العلوم التي تعرف تحديدا دقيقا في الموضوع و المنهج ،
في مقابل علم الإجتماع ، و يحاول هذا النص الكشف عن الجدل المرتبط
بالمنهج في علم الاجتماع من خلال أطروحته التي تقوم على اعتبار أن علم
الإجتماع هو العلم الذي يهتم بدراسة و تحليل الحوادث الإجتماعية
استنادا الى النظريات السوسيولوجية ، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا
أعتمادا على التجربة كألية للتحقق من الفرضيات التي يقدمها الباحث في
صدد دراسته لظاهرة معينة ، حيث تمكنه الملاحظة من التأكد مما قدمه
سابقا و تعيينه في التفسير و البحث و ذلك بالرجوع الى طبيعة الظواهر
التي يشتغل عليها ، هذه الأخيرة تقبل بخاصية الملاحظة لتفسيرها و النظر
فيها ، إن علم الإجتماع في هذا المستوى يتقابل مع علم الطبيعة من حيث
توظيف نفس أليات البحث المنهجية مما يتيح إمكانية وصفه بأنه علم تجريبي
، و رغم ذلك فانه يبقى في مستوى منه نسبي لأن تأكيد التجربة للفرضية
ليس بالأمر السهل عكس ما هو حاصل في علم الطبيعة .
بشكل من الأشكال يعمل النص
على تبني أطروحة الوضعية في علم الإجتماع ، بحيث أمكننا اعتبار هذا
العلم علم و ضعي يستلهم منهجه من منهج العلوم الطبيعية ، و قد إعتماد
صاحب النص على بنية حجاجية لتدعيم أطروحته و لتأكيد أفكاره فوظف
المقارنة ، حيث يقارن بين علم الإجتماع و علم الطبيعة ، كما وظف روابط
الشرط و التشارط ثم الروابط المنطقية و اللغوية ، و كلها أليات للحجاج
الغرض منها تبيين صحة الأطروحة و الموقف الذي يتبناه في النص .
و نجد ذات الأطروحة مهد
لها و دفع عنها السوسيولوجي الفرنسي اميل دوركهايم رائد الإتجاه
الوضعي في علم الإجتماع ، حيث يرى دوركهايم أن منهج البحث في هذا العلم
ينبغي أن يتبع نفس المنهج الذي تعتمده العلوم الطبيعية ، و أن يتحرى
الباحث أعلى درجات الموضوعية و أن لا يسقط ذاته على موضوع البحث أي
الظاهرة الإجتماعية ، و يكون تعامله معها كتعامل الباحث في المختبر
العلمي على الظواهر الطبيعية ، غير أن الأمر يختلف بل يتنافى بشكل كلي
حينما نتوقف عند أطروحة ماكس فيبر صاحب المنهج الفينومينولوجي في البحث
السوسيولوجي ، إذ يرى فيبر أنه على الباحث في ميدان علم الإجتماع أن
يتعامل مع الظاهرة كجزء منها ، بل أنه يستحل دراسة أي ظاهرة إجتماعية
دون اقحام ذات الباحث فيها ، لدى من الصعب جدا استعارة منهج البحث في
العلوم الطبيعية و تطبيقه في مجال علم الإجتماع ، في مقابل ذلك يرى
الفيلسوف البلجيكي لادريير أن إشكال المنهج في علم الإجتماع يقترح
علينا حلين إثنين ، أولهما إبتكار منهج خاص بهذا العلم يتلائم و طبيعة
الموضوع المدروس ، أو أن نستلهم منهج العلوم الطبيعية بشكل مستنسخ ،
غير أننا في كلتا الحالاتين سنجد أنفسنا أمام صعوبات كثيرة ، من هنا
كانت الدعوة الى بناء منهج يتطور كما تطور المنهج في العلوم الطبيعية
لكن في سياق مخالف لما ظهر فيه علم الطبيعة ، من جهة أخرى يرى
السوسيولوجي مارسيل ماوس ، أن المنهج في علم الإجتماع يتغير و يتحدد
حسب طبيعة الموضوع المدروس .
إن
اشكالية المنهج في علم الإجتماع كباقي العلوم الإنسانية ، نابعة أساسا
من طبيعة الموضوع الذي تشتغل عليه هذه العلوم و المتسم بالغموض و
التداخل بين علم و أخر ، و يمكن القول ان هذا الإشكال يعتبر أشد
الإشكالات قوة و حضورا كلما دعت الضرورة الى الحديث عن العلوم
الإنسانية و طبيعتها ، لكأن هذا الإشكال هو أهم ما أصبح يميز هذه
العلوم التي يمكن القول أنها تعاني أزمة منهج ، مما يستدعي منا طرح
اشكال كبير ، هو كيف أمكننا في العلوم الإنسانية أن نتخلى عن هذا
النقاش الجدلي و الخلوص الى منهج موحد وواضح يجعل عملية البحث في
العلوم الإنسانية سيما علم الإجتماع أمر متاحا و سهلا كما الشأن في
العلوم الطبيعية
.