في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشاء فلسفي من اقتراح مصطفى العوزي

 

النص "حين نقول عن علم الاجتماع إنه نسق نظري، فقصدنا أن غايته تفسير الحوادث والتنبؤ بها بواسطة النظريات أو القوانين الكلية (التي يحاول اكتشافها). وحين نصف علم الاجتماع بأنه تجريبي فمعنى ذلك أن له سندا من التجربة، وان الحوادث التي يفسرها ويتنبأ بها هي وقائع تمكن ملاحظتها، وان الملاحظة هي الأساس الذي نعتمد عليه في قبولنا أو رفضنا لأية نظرية من نظرياته. ونحن حين نتكلم عن النجاح الذي أحرزه علم الطبيعة، فالمقصود بذلك نجاح تنبؤاته: ويمكن القول إن نجاح التنبؤات في هذا العلم قائم في تأييد التجربة لقوانينه. وحين نعارض بين النجاح النسبي في علم الاجتماع ونجاح العلوم الطبيعية، فنحن نفترض أن نجاح علم الاجتماع ينبغي هو الآخر أن يقوم في أساسه على تأييد التجربة لتنبؤاته.
ويلزم عن ذلك أن التنبؤ بواسطة القوانين واختبار القوانين بالتجربة، يجب أن يكونا قاسما مشتركا بين علم الاجتماع وعلم الطبيعة."

حلل النص وناقشه

الإمتحان الوطني الموحد للبكالوريا / مسلك العلوم الإنسانية/ الدورة العادية

 

يتقدم النص الذي بين أيدينا في سياق النقاش الفلسفي حول مسألة العلمية في العلوم الإنسانية التي تطرقنا لها ضمن مجزوؤة المعرفة ، كإحدى المفاهيم الرئيسية و الكبرى في حقل فلسفة العلم أو الإبيستمولوجيا ، و ما أفرزه هذا النقاش من طروحات و نظريات متعددة لا تفتأ تطرح السؤال الإشكالي الكبير عن العلوم و درجة الحقيقة و النسبية فيها ، إشكال عمل العديد من الفلاسفة و المفكرين على تخصيص حيز هام من الاهتمام به في شتى مراحل حياتهم الفكرية و العلمية ، من ديكارت إلى دفيد هيوم ، إلى أدام سميت إلى دوركهايم بورديو و آخرين ، و يحاول هذا النص الخوض في ذات الإشكال من خلال تناوله لمشكل المنهج في العلوم الإنسانية و ذلك انطلاقا من طرح الإشكالات التالية : كيف يمكن تحديد علم الإجتماع كأحد العلوم الإنسانية إنطلاقا من المنهج المتبع فيه ؟ هل يعني هذا أن لعلم الإجتماع منهج خاص به ؟ ألا يمكن تطبيق منهج العلوم الطبيعية في حقل علم الاجتماع ؟ ما هي التقابلات الموجودة بين العلمين حتى يمكننا تطبيق ذات المنهج فيهما معا ؟

قبل الخوض في الإجابة عن الإشكالات المقدمة أعلاه ، ينبغي أولا تحديد مفهوم علم الاجتماع و مفهوم علم الطبيعة على اعتبار أنهما أكثر المفاهيم حضورا و تأثيرا في بنية النص و في تكوين معانيه و أطروحته ، نجد علم الاجتماع رغم كل الصعوبات الكبرى التي تحيط بأي محاولة لتعريف هذا العلم ،  يعني العلم الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية و المؤسسات و العلاقات بين الأفراد داخل محيط جغرافي معين أو بين محيط و محيط أخر و قد ارتبط ظهور العلم بالمحاولات الأولى لدى أفلاطون في حديثه عن الجمهورية الفضيلة  و مع العلامة ابن خلدون في علم العمران البشري ، لكنه لم يتأسس بالشكل الفعلي الا مع أوغست كونت ، رغم أن الكثيرين يرون أن أصول العلم متشعبة بين كتابات فلسفية عديدة ككتابات كارل ماركس و سان سيمون ، مما يجعل صعوبة تعريف العلم صعوبة كبرى قد ترتبط أساسا بصعوبة تحديد موضوع العلم ، عكس العلوم الطبيعية ، و التي تعني مختلف العلوم التي تهتم بدراسة و تحليل الظواهر الطبيعية من مثل  الجيولوجيا ، البيولوجيا ، الفيزياء و الكيمياء ، و هي العلوم التي تعرف تحديدا دقيقا في الموضوع و المنهج ، في مقابل  علم الإجتماع ، و يحاول هذا النص الكشف عن الجدل المرتبط بالمنهج في علم الاجتماع من خلال أطروحته التي تقوم على اعتبار أن علم الإجتماع هو العلم الذي يهتم بدراسة و تحليل الحوادث الإجتماعية استنادا الى النظريات السوسيولوجية ، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا أعتمادا على التجربة كألية للتحقق من الفرضيات التي يقدمها الباحث في صدد دراسته لظاهرة معينة ، حيث تمكنه الملاحظة من التأكد مما قدمه سابقا و تعيينه في التفسير و البحث و ذلك بالرجوع الى طبيعة الظواهر التي يشتغل عليها ، هذه الأخيرة تقبل بخاصية الملاحظة لتفسيرها و النظر فيها ، إن علم الإجتماع في هذا المستوى يتقابل مع علم الطبيعة من حيث توظيف نفس أليات البحث المنهجية مما يتيح إمكانية وصفه بأنه علم تجريبي ، و رغم ذلك فانه يبقى في مستوى منه نسبي لأن تأكيد التجربة للفرضية ليس بالأمر السهل عكس ما هو حاصل في علم الطبيعة .

بشكل من الأشكال يعمل النص على تبني أطروحة الوضعية في علم الإجتماع ، بحيث أمكننا اعتبار هذا العلم علم و ضعي يستلهم منهجه من منهج العلوم الطبيعية ، و قد إعتماد صاحب النص على بنية حجاجية لتدعيم أطروحته و لتأكيد أفكاره   فوظف المقارنة ، حيث يقارن بين علم الإجتماع و علم الطبيعة ، كما وظف روابط الشرط و التشارط ثم الروابط المنطقية و اللغوية ، و كلها أليات للحجاج الغرض منها تبيين صحة الأطروحة و الموقف الذي يتبناه في النص .

و نجد ذات الأطروحة  مهد لها و دفع عنها السوسيولوجي الفرنسي اميل دوركهايم  رائد الإتجاه الوضعي في علم الإجتماع ، حيث يرى دوركهايم أن منهج البحث في هذا العلم ينبغي أن يتبع نفس المنهج الذي تعتمده العلوم الطبيعية ، و أن يتحرى الباحث أعلى درجات الموضوعية و أن لا يسقط ذاته على موضوع البحث أي الظاهرة الإجتماعية ، و يكون تعامله معها كتعامل الباحث في المختبر العلمي على الظواهر الطبيعية ، غير أن الأمر يختلف بل يتنافى بشكل كلي حينما نتوقف عند أطروحة ماكس فيبر صاحب المنهج الفينومينولوجي في البحث السوسيولوجي ، إذ يرى فيبر أنه على الباحث في ميدان علم الإجتماع أن يتعامل مع الظاهرة كجزء منها ، بل أنه يستحل دراسة أي ظاهرة إجتماعية دون اقحام ذات الباحث فيها ، لدى من الصعب جدا استعارة منهج البحث في العلوم الطبيعية و تطبيقه في مجال علم الإجتماع ، في مقابل ذلك يرى الفيلسوف البلجيكي لادريير أن إشكال المنهج في علم الإجتماع يقترح علينا حلين إثنين ، أولهما إبتكار منهج خاص بهذا العلم يتلائم و طبيعة  الموضوع المدروس ، أو أن نستلهم منهج العلوم الطبيعية بشكل مستنسخ ، غير أننا في كلتا الحالاتين سنجد أنفسنا أمام صعوبات كثيرة ، من هنا كانت الدعوة الى بناء منهج يتطور كما تطور المنهج في العلوم الطبيعية لكن في سياق مخالف لما ظهر فيه علم الطبيعة ، من جهة أخرى يرى السوسيولوجي مارسيل ماوس ، أن المنهج في علم الإجتماع يتغير و يتحدد حسب طبيعة الموضوع المدروس .

إن اشكالية المنهج في علم الإجتماع كباقي العلوم الإنسانية ، نابعة أساسا من طبيعة الموضوع الذي تشتغل عليه هذه العلوم و المتسم بالغموض و التداخل بين علم و أخر ، و يمكن القول ان هذا الإشكال يعتبر أشد الإشكالات قوة و حضورا كلما دعت الضرورة الى الحديث عن العلوم الإنسانية و طبيعتها ، لكأن هذا الإشكال هو أهم ما أصبح يميز هذه العلوم التي يمكن القول أنها تعاني أزمة منهج ، مما يستدعي منا طرح اشكال كبير ، هو كيف أمكننا في العلوم الإنسانية أن نتخلى عن هذا النقاش الجدلي و الخلوص الى منهج موحد وواضح يجعل عملية البحث في العلوم الإنسانية سيما علم الإجتماع أمر متاحا و سهلا كما الشأن في العلوم الطبيعية .     

 

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال