في فضيلة التفلسف

" وكنت أبغي بعد ذلك  أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة و أن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه ، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين و الهمجيين، و أن حضارة الأمم  و ثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، و لذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. و كنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها و أن يشتغل بها، كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته و استمتاعه عن هذه الطريق بجمال اللون و الضوء أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر..."           ديكارت


 

إنشاء فلسفي من اقتراح الخلافة عليوي

 

        القولة:

"ليس التاريخ هو ما يصنعنا، وإنما ما نصنعه نحن"

في ضوء القولة، بأي معنى يصنع الإنسان التاريخ؟

الباكلوريا المغربية/الدورة الاستدراكية 2008/مسلك  العلوم الانسانية

        

يتأطر مضمون هذه القولة ضمن موضوع الوضع البشري، متناولتا في ذلك أحد المفاهيم الأساسية، ألا و هو مفهوم التاريخ في علاقته بالإنسان، وكذلك تتناول الوجود الإنساني على ضوء الإشكالات التي يطرحها مفهوم التاريخ. لكن لا بأس أولا بتحديد ما الذي يعنيه مفهوم التاريخ. ولهذا الغرض نجد هذا المفهوم  يتحدد في الإطار اللغوي بكونه معرفة بأحداث ووقائع ماضية مرتبطة بالإنسان، إنه بعبارة أخرى ذاكرة الإنسان بمختلف أنشطتها المادية والفكرية. أما في الدلالة الفلسفية فبالاستعانة بمعجم لالاند الفلسفي، فإننا نجد له معنيين المعنى الأول يتحدد فيه التاريخ على أنه معرفة ألإفرادي وأداته الأساسية هي الذاكرة. أما في المعنى الخاص وهو المتداول بكثرة نجد أن التاريخ يعني أنه معرفة بمختلف الأحوال المتحققة بالتتالي في الماضي بواسطة أي موضوع معرفي: شعب، مؤسسة، جنس حي، علم، لغة....إلخ.

بعد هذا التأطير العام للمفهوم يتبين أن مفهوم التاريخ دائما مرتبط بالحدث بالواقعة وبالفعل الذي يقوم به الإنسان، بالشكل الذي يجعلنا أن نقول كما جاء في القولة بأننا نحن من يصنع التاريخ. لكن كيف نصنع هذا التاريخ؟ هل نحن نصنعه تحت إطار حر أم  أننا جد مقيدين في صناعتنا لهذا التاريخ؟ ألا توجد حتمية تفرض علينا طريقة صناعة هذا التاريخ؟ ما الذي تقصده القولة بعبارة النحن؟ لماذا تحدد القولة صناعة التاريخ في هذا النحن؟ أين هو دور الفرد في صناعة هذا التاريخ؟

نحن من يصنع التاريخ, فعلا الإنسان هو صانع تاريخه، فمن ينتج التأريخ إنما هي الذوات وليست علاقات الإنتاج أو أنماط الإنتاج، كما يذكر لوسيان كولدمان lucein goldeman لذلك لا يمكن أن نتحدث عن صناعة للتاريخ من طرف مخلوقات أخرى غير الإنسان نفسه، لكن القولة حينما تستعمل أسلوب الخطاب النحن فإنها تضعنا أمام شكل معين لصناعة هذا التاريخ، وهي صيغة الجماعة مستبعدة بالتالي المجال الفردي، أي دور الفرد في صناعة هذا التاريخ. لكن ما تأكده هذه القولة هي أن الإنسان فاعل تاريخي، وبذلك ننتقل من مجال التاريخ إلى التاريخانية التي تنتسب إلى ذات الفاعل التاريخي وتؤشر على هذا الامتياز الخاص بالإنسان الذي يعيش التاريخ بكونه يفعل في التاريخ، فكل إنسان يعيش في التاريخ إلا ويفعل فيه، فالإنسان هو نتاج نتاجه الخاص، وذلك هو ما يعتبر سارتر حين يرى أن الإنسان هو فاعل تاريخي ولا يمكن بأي وجه من الأوجه أن يعتبر مجرد نتاج، وبذلك يلقي سارتر الضوء على عبارة إنجلز التي تقول بأن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم على أساس الشروط الواقعية والمادية السابقة فإن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم وليس الشروط السابقة وإلا لأصبحوا وساطات حاملة لقوى لا إنسانية, فإذا انفلت مني التاريخ فليس مرد ذلك أنني لا أصنعه أنا، بل مرده أن الغير يصنعه هو أيضا. وفي التصور المادي للتاريخ والذي قدم التاريخ عل أنه صناعة يقوم بها الإنسان بواسطة صراع الطبقات (صراع الطبقة البروليتارية ضد نظيرتها البرجوازية) تقدم الماركسية وجها مهما من وجوه صناعة التاريخ وهي صناعة أيضا في صيغة النحن في صيغة الجماعات أو الطبقات.  من هنا نطرح السؤال هل باستطاعة الإنسان أن يفعل في التاريخ كما يشاء، وبشكل حر؟ أم أنه خاضع لقيود ولحتمية تؤطر أفعاله وتوجهها، وبالتالي يصبح فاعلا خاضعا؟ هل الإنسان أولا هو غاية التاريخ أم أن هناك غايات أخرى أسمى منه؟

إن القولة لما وضعتنا أمام صيغة النحن فقد حاولت أن تضعنا بشكل أو بأخر أمام هذا النوع من الحتمية, فالجماعة لها قوتها وسلطتها على الأفراد لهذا فلا نصنع التاريخ إلا وفق قواعد وقوانين الجماع وذلك ما توضحه البنيوية حينما تجعل من الإنسان كائن خاضعا للبنية ولقواعدها وذلك بوعي منا أو بغير وعي، لتكون البنية في أخر المطاف هي صانعة التاريخ. وليس الإنسان.

وقد نذهب بعيدا في هذا التصور الذي يلغي دور الإنسان في صناعة التاريخ لنجد هيجل الذي يرى  في "كتابه العقل في التاريخ"، أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ تحقق الفكرة المطلقة وتاريخ تحقق الروح المطلق ، أو هي مراحل تجلي هذه الروح، أما الإنسان فهو مجرد عارض في هذا التاريخ أو أنه مجرد مظهر لتطور الفكرة، فكل ما ينجزه الإنسان بمجتمعاته وشعوبه ومؤسساته، ودوله، وإبداعاته ليست سوى تجليات مؤقتة لحركة الروح الدائبة، كلها تجسيد من أجل تحقق الروح المطلق. ثم يضع هيجل هذا التاريخ بعد ذلك وفق منطق الجدل. أي الفكرة ونقيضها ثم التركيب الذي يأتي منه نقيضه ليضعنا أمام تركيب أخر حتى نصل إلى الفكرة المطلقة والتي لا تقع إلا بتحقق الحرية المطلقة.

مما سلف نستشف أن مسألة صناعة التاريخ كثيرا ما يرجعها الفلاسفة إلى الإنسان، لكنهم يختلفون عموما حول الكيفية والمعنى الذي تتم به هذه الصناعة، فهناك من يرجع الأمر إلى شروط وحتميات سابقة على الوجود الإنساني، بينما هناك من يرى في الأمر حرية مطلقة، يصنع فيها الإنسان تاريخه كما يشاء ودون شروط مسبقة.                

 

مع تحيات موقع تفلسف

tafalsouf.com

---

من نحن | راسلونا | بحث

----

عودة إلى صفحة الإنشاءات

---

رجوع إلى صفحة الاستقبال